يظهر بجلاء أن هناك من ينتفضون من داخل المؤسسة الدينية فى مصر والمنبوذون خارجها بالشلح زوراً، ضد “ثقافة” التغييب، التى غزت مصر فى العقود الأخيرة. إنهم ينتفضون، ضد قنوات التغييب الممولة من خارج مصر وضد ثقافة خلط الأديان بآليات تفسير بعضها البعض أو بثقافة الصحراء البعيدة عن قلب الوادى! لقد وعوا الخطر، وتراجع الشباب أمام ما لا يقتنعون به، الممارس للمزيد من التغييب! لقد أضحى الأمل متوفراً، مع وقوف الجهات المنوطة بتجديد الخطاب الديني، بالثورة ضد الهجمة المضادة، التى تقاوم، ودوماً المعروف أن المقاوم يمثل الجهة الأضعف!
إن تلك الانتفاضة، إنما تقف بوضوح، ضد من يعتدون على هوية الوطن، ويلبسونها شعارات وأقمشة وكلمات أخرى، وضد من يخلطون بين المسميات، بتمويل قادم من الخارج، يطمح بالأساس فى دفعنا نحو الهاوية، والتفريق بين مواطنى البلاد من أجل إقامة “إمبراطوريات” هم فقط من يحلم بإقامتها، دون دراية بالأخطار المُحدقة من كل صوب، والتى ستجعل من ممالكهم فصور على الرمال!
لقد قرأ “مفكرو التغييب”، الماضى والتصقوا به، دون دراية وافية بالحاضر، فكان لهم العيش فى الحلم، وترك الواقع، وأخذوا الناس ممن باعوا عقولهم لهم، وراءهم، ممنين إياهم بجنة الخلد، وأقنعوهم، أن كل من دونهم فى النار، فأضحوا يشعرون، وكأنهم فوق كل من دونهم، وتصرفوا وفقاً لهذا الشعور، وكأنهم القادة، ودعوا على غيرهم بالزوال، أو أمنوا أنهم لن يدخلوا “ملكوت الرب” لأنهم ليسوا بمؤمنين، وكأن من يحدد الإيمان، ليس الله، ولكن من يقوم بدوره فى الدنيا، والعياذ بالله، ويتلقى على ذلك، ثمن من قوت المؤمنين، ليس بقليل بحسابات الدنيا، ولكنه قليل بحسابات الله عز وجل!
لم يكن “الغزو” الثقافى، الذى اتخذ الدين عنواناً، منذ بدء السبعينيات، قد جاء لوجه الله، ولكنه جاء لجلب المال وتشويه الحضارة وتشويه البشر، مستلهماً من الهزيمة التى ألمت بالبلاد، ومانحة البشر أملاً فى “عقيدة” جديدة، قائلة لهم، بأنهم قبل ذلك، لم يكونوا يعبدون الله ولكن الطاغوت، وأنهم خدعوا فى معتقداتهم، ولأن الناس كانت متألمة من أثر الهزيمة، صدقت هذا “الهُراء”، وكان مصحوباً بالمال والعطايا، وشركات توظيف الأموال والكسب السريع، وبالتالي، بيع الإيمان الوهمى كالنار فى الهشيم، ولكن لأن المال ينفذ، ولأن الفكر الأجوف يسقط، صحى الناس سريعاً، قياساً بعمر الزمان، ليروا، أن ما كان يباع لهم، ما كان إلا وهماً، وأن الإيمان الحقيقى فى القلوب مؤمن بعقول واعية، وليس فى تغييب، ولكن عقلاً مصدره الله!
عرف الناس، بأن الأمر ليس بالحفظ ولكن بالفهم، وأن الحياة ليست فقط بالدعاء والجلوس فى المساجد والكنائس، والوجوه العبوسة ولكن أيضاً بالعمل واستعادة الحضارة والجمال والابتسامة الجميلة على الوجوه، ليس فقط تصدقاً، ولكن أيضاً لبعث الحب بين الناس، لتكون الروح سمحة من أجل البناء، وليس الحلم بالهدم والموت!
إننا نستعيد ثقافة البناء، بقيادة العقل، من قبل من هم مسئولون، يدركون حجم مسئوليتهم، عن الروحيات، ليلهمونا كى نستعيد أنفسنا التى فُقدت فى غفلة من الزمان! إننا نستعيد الوسطية، التى طالما وصفنا بها فى مصر، ونشرناها حولنا، لنصبح عامل “توازن” فى منطقتنا. إن ثقافات التغييب فى اندحار ويظهر جلياً أن ما سيبقى سيكون “المقاومة” التى تسبق عصر التنوير، الذى سيأخذ وقتاً هو الآخر، كى ينبثق بجلاء!
لقد أضحى الأمل متوفراً بقيام المنوطين بالقيادة، بالخروج إلى الوطن الواسع ينادون بالصحيح من الدين بحق، والقضاء على فكر المنقادين. لقد انتفض الأزهر بشيخه الجليل، الدكتور أحمد الطيب، ضد قنوات الفتنة المبثوثة عبر الفضائيات المشبوهة التى تصنع ديناً جديداً غير الإسلام، ولا تتعامل مع العصر مثلما تعامل معه الصحابة والتابعون، وانتفض من نبذتهم الكنيسة من علماء، ضد تزييف الشريعة المسيحية، وضد تأجيج الفتنة والشعور بالاضطهاد الدائم، باللجوء إلى الكنيسة بدلاً من اللجوء إلى الوطن!
وها هى وثائق الغرب تخرج من أدراجها، نافضة التراب عن نفسها، قائلة بالتواطئوات التى تمت فى الماضى ما بين المغالين فى الخطاب الدينى الإسلامى، وما تلقوه من مبالغ على ذلك، لضرب المشاعر الوطنية والقومية، من أجل التنازع وذهاب ريح المؤمنين! إنهم كانوا دوماً يلعبون ضد الدين والوطن معاً، بينما كانوا ينادون بالجهاد من الغرب ضد الغرب، ونحن مندهشون، لكيفية أن ينادى شخص لحرب بلاد وهو يقطن فيها، فإذا المؤامرات تنكشف، وتنجلى الحقائق، ليؤكد كاتب أمريكى: “يمكن شيطنة أى دين بعدم فهم شرائعه فى سياقها الصحيح.. وأن الذين يتمسكون بحرفية النصوص فى الإسلام والمسيحية جعلوا من ديانات التوحيد ساحة صدام عالمى امتد نحو ألف عام”.
انتفضوا ضد التغييب يا قادة الفكر، فإن الدين واضح ولا يحتاج إلى كل تلك التعقيدات، وما الذين يعقدونه ويجعلون منه آلة للبطش إلا عملاء لمن أعلن تنازله عنهم! إنها انتفاضة العقل، فلنؤيد عقولنا ولا نبيعها لأى من كان!
تعليق واحد على انتفاضة العقل
أقول بعد كلامك يا دكتور، طبعًا يجب بالعقل الشرقي أن ينتفض، وينفّض عنه ما يلوّث عقله من تراهات، وينتبه للمستقبل والتكنولوجيا.
ولو كان العقل الشرقي في جملتي السابقة مبهمًا… خلليني أقول الرسالة موجهة للمائة أو المائتين الذين سوف يقرأوا هذه المقالة، على افتراض أنهم كلهم شرقيون بحكم لغتهم.