درست في الإعدادي والثانوي بمدارس من تلك التي تنتقي الطلبة المتفوقين وتعزلهم في فصول دراسية خاصة، ثم تشرع في انتقاء مدرسين مخضرمين لتلقينهم المواد الدراسية،بذات القداسة التي تليق برهبان المعابد البوذية.

في هذه الفصول يعملونك الكثير ( أنت متفوق، ينبغي أن تحفظ سريعا، أن تفهم من المرة الأولى، أن تجتهد منفردا، أن تباغت مدرسيك بالجديد، أن فقدان نصف درجة من مجمل الدرجات يعني كارثة كبيرة لا يمكن تداركها، أنك في مجتمع نخبوي لو أهملت في الاعتناء بحيثيات نخبويتك سيذهبون بك لأقرب فصل من فصول “العاديين” ويجردونك من كل الميزات المعنوية التي تحصل عليها).

وتكتسب مع الوقت عددا من المهارات: الدقة، السرعة، الإصرار، القدرة على تلمس مكامن ضعفك، الرغبة في تنمية الذات، مراقبة زملاء الفصل لأنهم جميعا منافسون محتملون،الاستفادة من تكنيكات الآخرين في الاستذكار، القدرة على المعيشة تحت ضغط، احتمال احتقارالآخرين لك لأنك فقدت درجة ونصف في امتحان الشهر، بينما حصلوا جميعا على الدرجة النهائية.

كان معظم زملائي في هذه الفصول متحدرون من مدارس مسيحية صارمة، أتذكرأن معظمهم درسوا المرحلة الابتدائية في مدرسة تدعى “البطريركية”!

لذا لم تكن الأجواء الكاثوليكية المتشددة المسيطرة على المشهد بالشيء المستغرب ولا الخارج على السياق، فكله نسيج واحد يكمل بعضه بعضا، نظام دراسي استعلائي وطلاب كاثوليكيو

لم يكن ينقصنا سوى ممارسة بعض طقوس التطبير ( أو جلد الذات بالكرابيج المعدنية)، كي تكتمل منظومة الشعور الملح بالذنب
التي تترسخ فيك مع الوقت.

 فمهما ذاكرت ومهما أنجزت من كتب خارجية ومهما حفظت، فلا بد أن  هناك شيء غائب عنك كان لابد أن تفعله..وهكذا تترسخ بداخلك نزعة من احتقار الذات لا يمكن أن يداويها شيء، دعك من أنك تحصد الدرجات النهائية، فالهدف هنا يتنحى جانبا لصالح فلسفة جلد الذات وروعة الشعور بالضآلة الكونية.

ومن ناحيتهم، كان المدرسون، يتحققون نوعا ما ويشعرون بالانتشاء ،بقهرنا نحن الآلهة الصغيرة المتفوقة، الذين سرعان ما سيتم تفريغهم في كليات الطب والهندسةب فضل علوم أساتذتهم الجمة وأساليبهم التدريسية المذهلة..

كانت المدرسة في ذلك الوقت تبعد عن منزلي ساعة تقريبا، وكانت مشقة الاستيقاظ المبكر الزائد ثم مشقة العودة بعد نهاية يوم أقرب لجدول إنهاك نفسي ممنهج ومنظم، كل هذا كان يزيد أوار الاضطراب بداخلي..

كنت خجولا حينها جدا-ومازلت بعض الشيء لا أنكر- لدرجة أنني استحييت أن أقول للترزي أريد بنطالا ضيقا لا واسعا، فكان أن فصل الترزي لي بنطالي مدرسة واسعين،كل واحد منهما أقرب لبناطيل بائعي العرقسوس، لذا كان زيي واسعا كالرهبان وحقيبتي محزومةعلى ظهري كالجنود، وشعري قصير كالرهبان الجنود، بينما قلبي كسير لا يجرؤ أن يحكي لأحدعمق الورطة.

في هذا الجحيم الذي لا يتسع لانسيابية الموهبة ولا لترف الخروج على النص،تضطر اضطرارا لخلق عالمك الخاص : كالقدرة المدهشة-للأساتذة والطلاب- على تملك ناصية اللغة العربية نحوا وتعبيرا، أو امتلاك آفاق معرفية في الفيزياء والكيمياء تتسع لماهو أكبر من نطاق الكتاب المدرسي، أو كمحاولة ربط الرياضيات بالفلسفة.

لقد حولت الضغط النفسي الخانق، لعالمي الخاص، كنت أريد أن أغوص في الكون،لا أن سقط في مستنقع امتحان الشهر البغيض.

أما زملائي فقد كان معظمهم متخثرو الجلد، يذاكرون كالماكينات، ويأكلون كالثيران، ولا يبكون أبدا..كان شيء في جبلتهم الأولى قد صار أكثر دربة وحنكة وقدرة على التعامل مع مثل هذه الأجواء التي بددت كيان طفل وديع، لا يجيد إلا الرسم والكتابة،وإلقاء النكات على مسمع الأب والأم لامتصاص آلامهما من الحياة.

في حصص الألعاب، كان هؤلاء الزملاء جميعا _ولاد الإيه_ محترفي كرة قدم،كانوا كأنصاف آلهة أمامي، إنهم يستذكرون كثيرا، ويلعبون كثيرا، ويفعلون كل شيء باكتمال مدهش..( ليتني كنت ذئبا ضالا في الصحراء ولم أك هنا).

اضطروني اضطرارا للتحايل على هذا الواقع، كونت فريقا لكرة القدم من كل أصدقائي (أنصاف المكسورين نفسيا) : مكلبظهم وقصيرهم والذي لا يكاد يرى.

ومع هذا الفريق الكارتوني، بدأب وإصرار لا يقبلان التراجع، أخذنا نحقق الانتصارات عليهم وعلى اكتمالهم المستفز.

وكنت أجد الثغرات كي أتحقق، ما بين سطور إخفاقهم..فلا كلهم كان يجيد كتابة موضوع تعبير جميل، ولا كلهم كان يمكنه أن يربط أشياء مختلفة في سياق واحد.

وتحولت مع الوقت إلى الطالب الهاديء، الذي يمكن أن يمسك بزمام الأمورأمام الموجهين ومفتشي الوزارة، ويمكن أن يقف ويرتجل موضوع تعبير كأنه الإسكندر الأكبر،أو يمكنه أن يتحدث أمام موجه العلوم عن نظريات نشأة الكون، رابطا بينها وبين محاولات الفلاسفة الأوائل في فهم الحياة..كنت أقرب لأيقونة أخرى يحاولون تصنيمها على مقاساتهم،لكنها كانت كسيرة، مستنفرة كذات نرجسية مجروحة، تريد أن تثبت للكون أن بداخلها شيءجميل، خارج مقاييس الدرجات والشهادات والامتحانات.

مع الجامعة حطمت كل القواعد الكاثوليكية التي تربيت عليها، وأهنت تراثا طويلا من الاستذكار المضني ومن الرغبة غير المبررة في التفوق على زملائي الذين اكتشفت أن منافستي لهم لم تكن ذات أبعاد كونية كما كنت أتخيل في هذا الوقت.

أخذت ألفظ من نفسي صفات الدقة والتركيز والانضباط،انتقاما من هذا الماضي السخيف، وقضيت أعواما بلا أي ضابط أو رابط.

وحين، كبرت قليلا وكونت ثقتي في نفسي بناء على عوامل أخرى، صادفت الكثير من الدراسات التي تحكي عن الخراب النفسي التي تخلفه مدارس المتفوقين في نفوس طلابها.

لكن من حين لآخر أمسك بتلابيب الراهب الكاثوليكي المدفون في أعماقي، في نذر من كبرياء دقته، أو في قدرته المدهشة على حساب حاصل عملية رياضية طويلة، أو في أي من المهارات العبثية التي دجنوا بها إنسانيتنا لنصبح “أبناء الرب الأوفياء”..

يتنازعني الكاثوليكي الدفين، والفوضوي الطليق..

وما بين الاكتمال_أو قل ما هو شبهه- وما بين التعثر المحبب ( أو ما هو نحوه)…عالقةٌ روحي، تتقاذفها تساؤلات شتى، ويتقاسمهما اثنان لا يرحم أحدهما الآخر أبدا.