كثيرة هي النظريات التي تناولت مسألة نشأة الالهه قديماً وحديثاً وتناولت الكيفية الذهنيه والظرفيه التي قامت عليها .
لقد تبنى البعض مؤخراً مصطلح آلهة الفراغات التي كانت بمثابة إجابه ميتافيزيقيه حاضره عند الانسان البدائي تجاه كل سؤال يدور في ذهنه ولم يكن يتعرف او يتحصل من خلاله على إجابة واضحه شافيه آنذاك ونظراً لمحدودية الامكانيات المعرفيه والعلميه لديه فقد ولدت تلك الاسئله علامة استفهام كبيرة عند الانسان القديم شكلت إجابتها معضلة
وجوديه وسببيه أرّقت تفكيره وألهبت عواطفه تجاه الكون والحياة ، ثم وبسبب إتساع رقعة الفراغ المعرفي لديه وخوفه من القادم المجهول أنتج فكرة الاله الواجد والمسبب ثم أوكل اليه مهمة فاعل الفعل ومسبب الاسباب في محاولة بائسة منه لفهم العالم من حوله ! .
و إعتماداً على عدد من النظريات والمراجع القديمة التي سأطرحها لاحقا هنا سوف أحاول إضافة وجهة نظر أخرى أرجح شخصياً انها الاقرب للمنطق والواقع والاكثر قابلية للاقناع والتصديق .
بداية ً ، لابد من الاشارة لنقطتين مهمتين في رأيي :
أولها ، ان الالهه متطورة شكلًا وفهماً ومضموناً ، وهي متغيره متحوله بتغير وتحول الحاله الثقافيه والاقتصاديه للمجتمعات والبيئات الانسانيه المختلفه .
ثانياً ، يتضح لنا من خلال بعض القراءات ، ان الشعوب الغابره قد فرّقت بين الاله والخالق ، وقد كان لكل منهم دوره ومفهومه في ثقافتهم عن هذا الاله الراعي وذلك الاله الخالق ! .
هذه النقطتين مبنية على ملاحظه واستنتاج لتاريخ مدوّن وشهادات حيه تتمثل في المخطوطات والادعيه والرسائل القديمه ناهيك عن المكتشفات الماديه التي وجدها الباحثون والعلماء من متاحف ومعابد وتماثيل وغيرها .
يقول الفيلسوف الاغريقي يوهيميروس في كتابة ( التاريخ المقدس ) متناولاً تاريخ الدين ما يلي :
( الالهة كلهم كانوا في الماضي البعيد رجالاً بارزين بين الناس ، وكانت لهم مكانة ممتازة في حياتهم ، ثم قدسهم الناس بعد مماتهم ) ! ، وهذا الرأي الفلسفي المجرد ، يمثل أول اشارة الى نشوء الالهة عن عبادة الاسلاف .
ثم وفي اواخر القرن الاول الميلادي ، قام المفكر السوري فيلو الجبيلي بوضع مؤلف يحكي تاريخ الفينيقييين ابتداءاً من الجيل الاول الذي قدس أشجار الارض واقام لها الطقوس ، فالاجيال اللاحقة التي كان لكل جيل منها فضل واكتشاف هام في تاريخ الحضارة مثل النار والزراعة ، ثم بجّل الناس اصحاب تلك الاكتشافات من الافراد المتفوقين في حياتهم ، ثم قدسوهم بعد وفاتهم ورفعوهم تدريجياً الى آلهه معبوده .
بعدها ، يتحفنا الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر بطرح مقالة شهيرة حول دور معتقد الارواح في تكوين الآلهه والدين .
لاحظ سبنسر ان الثقافات البدائيه تعتقد بأن لارواح الموتى دوراً هاماً في حياة أسرها السابقه ، ومحيطها الذي عاشت فيها إبان حياتها الاولى ، كما تعتقد بأن هذه الارواح تتحر بعد وفاة اصحابها ، وتحررها هذا يعطيها قوة يمكن توجيهها للنفع او للضرر ، وقد كانوا يظنون ان لهذه الروح تأثير نشط ومتحرك في محيط أسرها واقاربها واصدقاءها السابقين ، ومن اجل كسب ودها ورضاها كان لابد للاهل والاقارب من اقامة طقوس مناسبة تقام لها عند اضرحتها !
اما ارواح السحره ، فقد كان يشمل مجال تأثيرها وقوتها الجماعه كلها ، فكان لابد من إتساع رقعة تقديسها وتبجيلها بين الناس ، وهذا دلالة على ان الالهه الاولى التي عبدها الانسان لم تكن الا زعماء او سحرة متميزين بالمعنى الاشمل ، واشخاص محبوبين وذوي مكانة وتقدير بالمعنى الاخص .
لاحقاً نشر سبنسر كتاب مهم ( المبادئ الاولى ) وفيه اعاد صياغة فكرته نفسها اذكرها بشكل مختصر كالاتي :
ترى النظرية ان الدين عند الانسان إبتدأ مع الالهه ، وان هذه الالهه أساسا كانت عبارة عن أرواح ناس عظماء ومحاربين وسحره وحكماء قدست الناس أرواحهم بالبداية قبل ان تتطور الفكره لاحقاً لتصبح آلهة سماويه معبوده !
وبسبب اعتقاد الناس ان لهذه الترواح قوة خياليه وقدرات خارقه فقد حاولوا التقرب منها وارضاءها بالاضحيه والقرابين !
بعدها ، جاء رائد الانتروبولوجيا النظرية ” تيلور” بصياغة نظريته في اصل الدين وقد سماها ب ( الارواحيه ) نسبة الى الارواح وهذا مفادها :
يعتقد تيلور ان اقدم شكل للدين يقوم على الايمان بوجود الارواح ، وقد تكونت لدى الانسان فكرة انقسام الكائن الى جسد و روح من خلال مراقبته لظاهرة الاحلام ! ، ففي الاحلام يرى النائم أقارب له وأصدقاء قد ماتوا من زمن بعيد ، لكنهم أحياء في مخيلته ! بل وتتحدث اليه ، كما انه يرحل هو ايضاً اثناء المنام ليزور مناطق نائيه ، وقد ظن ان بزيارة الميت له بالحلم محبة له او رسالة اليه ، او بالترحال مكرمتاً له وتقديراً اليه ، ثم استغرب ترحل الاموات بحريه في احلامه وقد لاحظ انفصال الارواح كليا عن اجسادها ، وقد أذهلته خصائص هذه الروح التي تأتيه في الاحلام ، وبسبب بدائيته وبساطته فقد اعتقد انها ذات قوة هائله وقدرات لا محدوده خارقه ! ، فحاول جاهداً التقرب والتودد اليها لقضاء حوائجه ظناً منه انها كانت سبباً للمرض والصحه وللحظ العاثر او الباهر لذلك فمن الحكمة ارضاءها وتهدئة خواطرها ! فبدأ بتقريب القرابين وتقديم الذبائح لارواح الموتى وتوجه اليها بالابتهالات والادعيه حتى تحولت هذه الممارسات فيما بعد الى عبادات ودين !! .
ومن ذلك ، نلاحظ ان الالهه الاولى لم تأتي من سؤال عن سبب زلزال هنا او فعلة فيضان هناك انما هناك اسباب ومجريات أخرى أدت الى نشأة وتطور فكرة الآلهه بالسابق .
شذرات ..
لقد آمن انسان الباليوليت الاعلى العاقل بقوة ساريه تراقبه وتؤذيه ان آذاها وتكرمه ان فهمها واقترب منها !
والصينيوون آمنوا بقوة اليانغ الموجبه وال ين السالبه التي تصدر منها الخير والشر دون اشارة الى اي دور لها في الخلق
ثم يتحفنا الاغريق في نظرتهم عن بداية الخلق من مادة اصليه اولى شكلت اساس الحياة في الارض مبتعدين في ذلك عن فكرة الخالق المشخص !
ومن الفراعنه وحضارة سومر و تلاها، تبدأ فكرة الالهه الراعيه وقصص الخلق والتكوين بالشيوع والشهره وهي معروفة لنا اليوم !
وهذا يرجّح برأيي على مقولة الالهه المتطوره ، فقد بدأت الالهه كقوة ساريه موازيه للطبيعه ثم وفي المرحلة الوسط للدين ظهرت عبادة وتقديس الارواح ، وفي مرحلة متقدمه من تاريخ الدين رأينا تعدد الالهه وتنوعها ، وإنتهينا الى آلهة التوحيد الابراهيميه ! مما يوحي لنا ان تلك الآلهه اتخذت مسار تطوري افقي متدرج من اللا شئ المجرد الى الشخص المجرد القابع وراء السماوات مضطجعاً على كرسيّه الموثور .
الخلاصه ، ان طفولية الانسان البدائي بالحياة وبساطته ومن ثم سؤاله عن مجريات الاحداث الطبيعيه من حوله ليست بالضرورة قد بلورت فكرة الاله لديه وجعلته يتوجه اليه مباشرةً انما هناك تدرج ثقافي فكري ونفسي اوصله الى الاعتقاد والايمان بالاله الحالي .
* كتابين استقيت منهما المصادر أعلاه للاستاذ فراس السواح
- مغامرة العقل الاولى
- دين الانسان
4 تعليقات على في رحاب الآلههَ .. إشكالية الأصل والمنشأ
الإشكالية عميقة وقديمة قدم الزمن، بل وشائكة إلى حد بعيد بالنسبة لكثير من الأديان والديانات، ولكن دعنى أحييك على البحث والتنظير.. كل التحية وفى انتظار جديدك
كثيرون بحثوا في تاريخ الفكرة وكأنها تدرج ثقافي للاجابة على السؤال ،: من اين اتت الفكرة ما لم تكن وحيا .. لكن بسكال الفرنسي الذي قيل عنه انه قال اشياء تخالج النفس واقرب .. انتهى من نقاشه الى معادلة بسيطة .. انني امام خيارين ، اؤمن بالفكرة او ارفضها ، رفضها قد يدخر لي عذابات ، والايمان يجعلني على امل ان تكون الحياة الدنيا مرحلة اولى .. مجرد تعليق هامشي طالما قرأت فلابد ان اعلق وان على السريع
الزميلة سلمى , سبر أغوار الدين والتقصي عن بواعثه ومسببات نشأته احدى الامور التي اهتم بها منذ فتره والمسألة صعبة جدا بحيث أن أي حكم منا أو تقسير تجاه حدث معين او عادة وسلوك انما هو يعتبر تنظير بحد ذاته لاننا وامام هذا المدى التاريخي البعيد للدين لا نملك الا ذلك وفق ما يتاح امامنا من مصادر
أشكر اطلالتك ومشاركتك المشجعه دائما .. تحياتي
الفيتوري
معادلة بائسه برأيي , ومن يطبق ذلك هو شخص مثير للشفقه حقا !
كيف للانسان ان يعيش على مبدأ ( يا تصيب يا تخيب ) , واين هي الحرية والقناعه وإعمال العقل , انه هروب من التفكير وألغاء لدور اساسي للعقل عن طريق التغاضي عن أسئلة وجوديه وحياتيه مهمة للانسان .
شخصيا , اعرف عدد لا بأس به ممن يتبع هذا القاعده , واتناقش معهم في مبررات هذا النهج الغريب والحقيقه انني وجدت الخوف وانعدام الثقه بالنفس هو أحدى الاسباب التي تدفعهم لهذا الاعتقاد .
عموما , أسعدني مرورك وتعليقك المثري عزيزي ,, تحياتي