منذ عام 2005 أصبحت قضايا التعذيب واحدة من الموضوعات المطروحة إعلامياً بقوة. كانت قضية عماد الكبير تحديداً، وانتشار “فيديوهات” التعذيب قد أطلقت موجة على الإنترنت شعارها فضح الجلادين ومساندة ضحايا التعذيب.  ولم يكن لهذه القضايا أن تظهر بهذه القوة إلا بفضل عصر الصورة الذي استفاد منه نشطاء الإنترنت في خدمة قضايا الحريات، بعكس تخوف مفكري الغرب الذين استنكروا تحول الحياة إلي استعراض يغذي التفاهة والاستهلاك.

تزايدت فعالية استخدام الصورة في الكشف عن مثل هذه الممارسات. فكل يوم كان هناك شهادة لضحية جديدة، أو صورة لوقائع تعذيب مواطن آخر، أو فيديو يصل إلى وائل عباس على مدونته “الوعى المصري” وينتقل إلى باقي المدونات يتبعه “جروب” على الفيسبوك. ثم ينتقل الأمر إلى الصحافة التى دخلت في سباق محموم مع المدونات لكشف المزيد من فيديوهات و”صور” التعذيب.

رغم بشاعة الحالات، فقد بدا الأمر وكأنه سباق بين جميع الأطراف لإنتاج “الصور” الضابط أو المخبر الذي يصر على تصوير الحالات التي يقوم بتعذيبها بكاميرا الموبيل لأسباب متعددة سواء كمستند لإذلال الضحية، أو نوع من التفاخر، أو حتي على سبيل المرح. ثم المدون أو الصحفي الذي يلتقط الفيديو أو الصورة ويسعي لنشره. في البداية كانت الشهادات صادمة، صور الاعتداء على بعض المواطنين في أقسام الشرطة أو في الشارع تجذب اهتمام وكالات الأنباء العالمية. ويستحوذ كل فيديو على نسبة مشاهدة عالية، وقد يحدث في بعض الحالات إن تظهر الضحية وتعلن عن شخصيتها مثلما حدث في حالة عماد الكبير مما يعطى شرعية للمنظمات الحقوقية العاملة في مجال مناهضة التعذيب للتقدم بطلب تحقيق للنائب العام. كانت قضايا التعذيب نقطة جديدة لصالح الإعلام الجديد في مقابل الإعلام القديم من صحافة وتلفزيون الذي قد يتخوف من تجاوز بعض الخطوط الحمراء. لكن توالى الأخبار، الصور، أفقد الوقائع قوتها وأثرها، فلقد تحولت أخبار التعذيب على الإنترنت لحوادث عادية اكتسبت صفة اليومية لم تعد مثار دهشة أو استنكار. ولم يتحرك من أجلها سوى مجموعة ضيقة من النشطاء، الذين يركز نشاطهم أيضاً على الفضح والكشف وإنتاج الصور من خلال اختيار أماكن في قلب العاصمة وسط مكاتب القنوات الفضائية ووكالات الأنباء، وأحياناً أمام سلم نقابة الصحفيين لتسهيل مهمة رجال الإعلام/ منتجو الصور في إلتقاط صورة جيدة تظهر دائرة ضيقة من المتظاهرين المنفعلين محاصرين بالمئات من جنود الأمن المركزى.

*      *       *

صور التعذيب كانت في الغالب، أثار لكدمات، جلد محترق، جثث مشوهه. أو فيديوهات تقدم الوقائع لمشهد ضابط يضرب مواطن على قفاه، أو يضع جسم ما في مؤخرته. مشاهد بشعة بالتأكيد لكن التكرار أضعف من أثرها. أصبحت صور معادة ومكررة مثل صور ضحايا التفجيرات في العراق، أو القصف الاسرائيلي لغزة.

أما حالة خالد سعيد فقد كانت استثناءاً لما سبق. لم يكن هناك فيديو، كما أن الأمر المؤثر أكثر لم تكن صورة جثة خالد بعد الضرب وتشريح الطبيب الشرعي الذي قال أنه قد مات نتيجة الاختناق. كانت الصورة الأكثر تأثيراً صورة خالد قبل الحادثة كشاب وسيم لا يزال في بداية حياته يبتسم متفائلاً. المسافة بين الصورتين كانت هى الأكثر تأثيراً. حالة خالد سعيد كان نقلة جديدة  في عصر الصور الذي نعيش فيها، فالصورة هنا لا تلعب على مساحة الكشف بل على مساحة الخيال. تترك الصورتين المساحة للمشاهد ليتخيل بشاعة ما حدث، لهذا كان أثر حادثة خالد أقوى من أثر حالات التعذيب الآخري. ولهذا كان اهتمام الإعلام بقضية خالد أقوى من اهتمامه ببقية قضايا التعذيب حتي تلك التى تكشفت بعد حادثة خالد.

*       *        *

بعد أيام قليلة من الكشف عن واقعة تعذيب الشاب خالد سعيد في الإسكندرية، ظهرت حالات جديدة في مناطق مختلفة منها عبد السميع صابر صاحب “كشك” لبيع المرطبات والحلويات في مدينة نصر، والذي في خلاف مع رئيس الحى قام عدد من ضباط الشرطة بإلقاء القبض عليه بالرغم من تسديده للرسوم المقررة وصحة جميع أوراقه. حتى أن النيابة قد أمرت بإخلاء سبيله في نفس اليوم الذي ألقت فيه الشرطة القبض عليه، لكن قسم مدينة نصر تعنت في إطلاق سراحه. وبعد عدة أيام اتصلوا بأهله وطلبوا منهم أن يأتوا لاستلام جثته بحجة أنه قد توفي نتيجة السقوط من على السلم. أهالى عم عبد السميع أصيبوا بحالة انهيار حينما شاهدوا الجثة وأثار الكدمات على أنحاء متفرقة من جسده إلى جانب وجود ثقب في رأسه بحجم ثلاثة أصابع طبقاً لرواية أخيه. ثم في أقل من أسبوع  نشر الزميل وائل عبد الفتاح في جريدة الدستور رسالة وصلته من د.خالد فهمى بصفته عضواً في لجنة الحريات الأكاديمية التابعة لجمعية دراسات الشرق الأوسط (ميسا) وهي لجنة تضم مجموعة من أساتذة جامعيين متخصصين في مجال دراسات الشرق الأوسط. تقوم بمتابعة انتهاكات الحرية الأكاديمية سواء تلك التي تقع في بلدان الشرق الأوسط المتعددة أو تلك التي تقع في الجامعات الأمريكية والغربية بشكل عام. في الرسالة انتقدت اللجنة بشدة موقف جامعة قناة السويس من الاعتداءات التي يتعرض لها طلابها تحديداً حالة د.محمد سيد أحمد صالح الزغبي الطالب بالسنة النهائية في كلية الطب، والذي كان يمارس مهامه الدراسية والمهنية بالعيادة الخارجية لقسم النساء والتوليد في المستشفي الجامعى حينما اقتحم العيادة 7 من أفراد الحرس الجامعى وأحاطوا بالطالب وانهالوا عليه بالضرب وسحلوه من العيادة أمام الطلاب والمرضي إلي مقر الحرس الجامعى. وهو مشهد عادى وطبيعي في الجامعات المصرية فالطالب ينتمى للإخوان ومشترك في مجلة حائط بعنوان “القدس”، لكن ما هو خارج عن المألوف هو موقف إدارة الجامعة التي حولت الطالب إلي التحقيق بتهمة الاعتداء وإهانة الحرس الجامعى. وفي الرسالة التي وقعها روجر آلن- رئيس لجنة الحريات الأكاديمية، وأستاذ الأدب العربي والمقارن بجامعة بنسيلفانيا- طالب جامعة قناة السويس بفتح التحقيق والدفاع عن حرية التعبير داخل حرم الجامعة.

رغم بشاعة الحادثتين إلا أنهما لم يحوزا الإهتمام الإعلامى والشعبي التى حازته قضية خالد سعيد، والسبب ببساطة أن عنصر الصورة لم يتوافر في كلا الحالتين لهذا لم تستطع مجموعات الفيسبوك التي انشأت تضامناً مع عم عبد السميع أو طالب الطب أن تصنع من الإثنين أيقونة تجذب الجماهير.

*       *        *

الآن تعيد النيابة فتح التحقيقات في قضية خالد سعيد الذي تحولت صورته لأيقونة، لكن التاريخ علمنا أن الأيقونات لا تعيش لفترة طويلة. في النهاية قد يخفت الضوء الإعلامى على قضية خالد، قد يعاد فتح التحقيقات، قد تصدر أحكام في حق المخبرين الذين قاموا بعمليات التعذيب وينجو الضابط المتهم في أكثر من قضية، بل وحتى قد يحاكم الضابط نفسه. لكن في نفس الوقت يظل التعذيب واقعاً قائماً. فالمشاعر الإيجابية دون نسق فكرى أو منهج سياسي قادر على احتوائه وتوجيهها تظل غير قادرة على صنع تغير حقيقي.

أدخل الإنترنت قيم ومعايير جديدة على العمل السياسي تضع الصورة والإستعراض في المقام الأول (وإن كان هذا بالطبع لا يقلل من قيمة ما يطرحه هذا الخطاب). فخطاب الإنترنت السياسي ليس خطاب تحليلي أو إقناعي بل هو في المقام الأول خطاب دعائي. ويمكن أن نلمس ذلك بقوة إذا راجعنا أرشيف الإنترنت طوال الفترة الماضية. على سبيل المثال يمكننا أن نراجع قضية قريبة كقضية الحد الأدنى للأجور.

لقد كان الانترنت طوال شهر أبريل ومايو معبأ بقوة اتجاه هذه القضية. عشرات المجموعات على الفيسبوك، صورة الدعوة للمظاهرة على مئات المدونات، موقع مخصص للقضية، فيديوهات لشخصيات عامة تدعو للإضراب من أجل الضغط على الحكومة. لكن مع ذلك لن نعثر ولو على مقال واحد يوضح القضية من أولها لآخرها، لن تجد مقال مثلاً يوضح لماذا الحد الأدنى للأجور 1200 جنيه، وليس ألف جنيه. وهل مثل هذا القرار سيؤثر على معدل التضخم الإقتصادى؟ هل الحكومة قادرة على توفير على هذا المبلغ؟ هل من حكم المحكمة الدستورية أن تدخل في القرارات الإقتصادية؟

لن نجد إجابات على كل هذه الأسئلة وربما لن نجدها مطروحة من الأساس. بل فقط سوف نجد “صورة” وشعار ترويجى للقضية ودعوة للإضراب. وفي النهاية تمر أيام قليلة وتغيب تلك الصورة لتحل محلها صورة آخري، قد تكون تزييف إنتخابات مجلس الشورى، الإعتداء على أسطول الحرية، أو صورة خالد سعيد. تستمر الماكينة الضخمة للإعلام من إنترنت، وصحافة، وتلفزيون في إنتاج الصور. تلتهب المشاعر، تندلع مظاهرات صغيرة يحاصره عدد كبير من جنود الأمن المركزى. ثم تبدأ الدورة من جديد بصورة ثانية.. وتستمر.. وتستمر…

—————

* نُشرت في أخبار الأدب.