العلوم الاجتماعية هي فروع من البيولوجيا
(1)
البيولوجيا (علم الأحياء) هي دراسة جميع الكائنات الحية، سلوكها ونظمها الاجتماعية. والبشر هم كائنات حية. لذا، فالعلوم الاجتماعية (دراسة سلوك البشر ونظمهم الاجتماعية) تقع ضمن اختصاص علم الأحياء. العلوم الاجتماعية فروع من علم الأحياء، وجميع النظريات الاجتماعية العلمية حول السلوك البشري يجب أن تكون متسقة مع المبادئ والقوانين المثبتة في البيولوجيا.
ومع ذلك، فمعظم العلماء الاجتماعيين قد يعترضون على هذا الاحتواء للعلوم الاجتماعية تحت البيولوجيا، ويدّعون بأن فرادة uniqueness الجنس البشري تتطلب علماً منفصلاً. بل يدعي البعض أن هذا التفرد يجعل البشر مستقلين ومحصنين ضد قوانين ومبادئ البيولوجيا؛ فعلم الأحياء ليس مهماً للسلوك البشري. وفقا لدراسةٍ عام 1996، من 168 عالم اجتماع شملهم الاستطلاع نسبوا فقط 4.7٪ في المتوسط من الفروق بين الجنسين في الاهتمامات المهنية، و 15.3٪ من الفروق بين الجنسين في الإجرام العدواني ، إلى عوامل بيولوجية (وراثية، قبل-ولادية، وبعد-ولادية غير اجتماعية). لذا فإن اجتماعياً نموذجياً يعتقد بأن ما يقرب من 85٪ من التباين في الفروق بين الجنسين في أعمال العنف والعدوان تفسّره عوامل اجتماعية وثقافية بحتة مثل التنشئة الاجتماعية للجنسين. قبل سنوات عديدة، كنت عالم اجتماع كهذا.
ما من شك في أن البشر فريدون. ولكن، كما يشير الاجتما-حيوي sociobiologist العظيم “بيير فان دين بيرغ”، فالبشر ليسوا فريدين في فرادتهم. فكل نوعٍ فريدٌ من نوعه. إذ لو لم يكن، لما كان نوعاً منفصلاً. إن كانت فرادة النوع تتطلب منهجاً علمياً منفصلاً، فيتعين إذن أن تكون هناك تخصصات علمية بعدد الأنواع (كعلم الكلب، علم القط، علم الزرافة، الخ). في الواقع، البيولوجيا تغطي جميع الأنواع في الطبيعة، ما عدا البشر، أو هكذا تقول الحكمة التقليدية في العلوم الاجتماعية.
إن الادعاء بأن العلوم الاجتماعية ليست جزءا من علم الأحياء، ولإقامة علم منفصل وغير متوافق لأجل البشر فقط، هو غريب وغير ضروري بقدر إنشاء علم الهيدروجين، لدراسة الهيدروجين بغض النظر وبالتعارض مع الفيزياء. ومع ذلك، فإن فكرة علم الهيدروجين المنفصل عن الفيزياء منطقية بقدر فكرة أن العلوم الاجتماعية منفصلة عن علم الأحياء. فالهيدروجين عنصر فريد جداً: إنه العنصر الأكثر وفرة في الكون؛ وهو أخف وأبسط عنصر؛ بل هو العنصر الوحيد الذي لا تحتوي نواته على نيوترونات؛ ولديه أقل عدد من النظائر في الطبيعة؛ لديه نقطة غليان وانصهار منخفضة للغاية؛ جزيء الهيدروجين هو أبسط جزيء؛ ولديه سرعة أعلى من أي غاز آخر في أي درجة حرارة معينة، وبالتالي فهو ينتشر أسرع من أي غاز آخر… والقائمة تطول.
مع ذلك، فمن غير الضروري تماماً إقامة علم هيدروجين مكرس فقط لدراسة فيزياء الهيدروجين، لأن الفيزياء تبني القوانين والمبادئ العامة التي تنطبق على جميع العناصر، بما في ذلك الهيدروجين. فقانون بويل وقانون أفوجادرو ينطبقان على الهيدروجين كما على كل الغازات الأخرى رغم فرادتها. والفيزياء كعلم تقدمت كما نراها لأنها لا تصنع استثناءات، بل تصوغ القوانين والمبادئ العامة التي تنطبق على جميع العناصر، وليس قوانين محددة لكل عنصر.
بطبيعة الحال، فالفيزيائيون، كغيرهم من العلماء، يتخصصون في أنواع معينة من المادة؛ بعضهم فيزيائيو دقائق أولية، وآخرون فيزيائيو مادة مكثفة. فليس هناك أي حرج في تخصص بعض العلماء في السلوك البشري. في الكيمياء، البعض يتخصص في دراسة مركبات الكربون، ولكن لا شيء في “علم الكربون” (الكيمياء العضوية) يتنافى والمبادئ العامة للكيمياء. أنا لا أدعو للقضاء على العلوم الاجتماعية، بل فقط احتوائها كـ”بيولوجيا الانسان”. في كتابه لعام 1998 “المواءمة Consilience”، يدعو عالم الحشرات في هارفارد “إدوارد أو. ويلسون” بشمولية وتأكيد إلى توحيد، أو مواءمة، جميع العلوم والدراسات الإنسانية (كالفنون، الأدب، الموسيقى، والأخلاق)، مسترشدة بمبادئ علم الأحياء التطوري. المواءمة هي ما نحتاج إليه من أجل احتواء العلوم الاجتماعية تحت علم الأحياء.
معظم العلماء الاجتماعيين لا يرون كيف يمكن لقوانين الأحياء نفسها أن تنطبق للبشر كما لجميع الأنواع الأخرى. على سبيل المثال، معظم الاجتماعيين يدعون أنه رغم أن لكل الأنواع الأخرى في الطبيعة طبيعة فطرية خاصة بالنوع، تحدد كيف يتصرف أعضاء ذلك النوع، فالبشر استثناء من هذه القاعدة وليس لهم أي طبيعة فطرية. يدعون أن البشر يولدون “ألواحاً فارغة” وكل سلوكهم تحدده التنشئة الاجتماعية والعوامل البيئية الأخرى. معظم علماء الاجتماع لا يرون كيف أن استثنائية الإنسان هذه – أي ميلهم إلى صياغة نظريات محددة للبشر فقط – قد أعاقت تطور العلوم الاجتماعية. سيحتاج الأمر لإيمان هائل بالخلق الكتابي Biblical Creation لكي يعتقدوا بأن البشر هم، إلى حد ما، النوع الوحيد المعفى من قوانين البيولوجيا التي تتخلل سائر الطبيعة.
إن علم الهيدروجين بمعزل عن الفيزياء ليس ضرورياً، لأن الهيدروجين رغم فرادته، مختلف كمياً فقط، لا نوعياً، عن العناصر الأخرى. الهيدروجين هو عنصر مميز عن الهليوم، ولكن الهليوم ليس سوى الهيدروجين مضافاً له زوج من البروتون والإلكترون. الليثيوم، مع اختلافه عن الهيدروجين والهيليوم، ليس سوى الهيليوم مضافاً له زوج من البروتون والإلكترون. جميع العناصر متشابهة، إلا في عدد البروتونات والالكترونات التي تحتويها؛ كافة الخصائص الفريدة لمختلف العناصر مستمدة من ذلك. هذا هو السبب في أن نفس قوانين ومبادئ الفيزياء تنطبق على جميع العناصر، بغض النظر عن طبائعها الفريدة.
الشيء نفسه ينطبق على الكائنات البيولوجية. فالبشر نوع مختلف عن الشمبانزي، ولكن الشمبانزي ليس سوى بشر مع بضع نقاط مئوية قد تغيرت في الجينوم، والغوريلا لها نقاط مئوية أكثر بقليل. جميع أنواع الحيوانات متشابهة، باستثناء الجينات المحتواة في جينوم كل منها. جميع قوانين ومبادئ البيولوجيا تنطبق على البشر كما على جميع أنواع الحيوانات الأخرى. إن الاختزالية reductionism في البيولوجيا (تصنيف جميع الكائنات البيولوجية من حيث تركيبها الوراثي، وشرح سلوكها ونظمها الاجتماعية بنفس مجموعة المبادئ في علم الأحياء التطوري)، والعمومية (لا يتم منح استثناءات لأي نوع) تسمحان لها أن تنطبق على جميع الأنواع. فالاختزالية والعمومية هما مبادئ هامة في العلم.
في إدراجي المقبل، سأشرح لماذا، خلافاً لما يعتقده معظم الاجتماعيين، جميع العلوم الجيدة اختزالية، وكل السلوك البشري يجب أن يفسر على مستوى الجينات (والجزيئات والذرات والدقائق).
العلوم الاجتماعية هي فروع من البيولوجيا
(2)
خلافاً للاعتقاد الشائع (وما يفكر فيه معظم العلماء الاجتماعيين)، فجميع العلوم الجيدة اختزالية. عالم فيزياء الدقائق والحائز على نوبل (وأحد أبطالي الفكريين) ستيفن واينبرغ يشرحها بشكل أفضل، حيث يقول “إن الرؤية الاختزالية للعالم مثيرة للمشاعر وغير شخصية. لا بد من تقبلها كما هي، ليس لأننا نحبها، ولكن لأنها هي الطريقة التي يعمل بها العالم”.
ولكن لـِمَ هذا؟ لماذا الرؤية الاختزالية هي الطريقة التي يعمل بها العالم؟ الأمر في غاية البساطة. في الطبيعة، الأشياء الأكبر مصنوعة من أشياء أصغر. والأشياء الأصغر ليست مصنوعة من أشياء أكبر. حتى الظواهر على مستوى أعلى من التجمّع (“الأشياء الأكبر”) يجب أن توضّح بآليات سببية تعمل على مستوى أدنى من التجمّع (“الأشياء الأصغر”). البشر مكونون من جينات وخلايا وبروتينات. والجينات والخلايا والبروتينات ليست مصنوعة من البشر. فعلى السلوك البشري (الظواهر على مستوى البشر) أن يفسر بواسطة آليات تعمل على مستوى الجينات، الخلايا، والبروتينات. بالطبع، لا بد من شرح سلوك الجينات، الخلايا، والبروتينات على مستوى الجزيئات والعناصر، وفي نهاية المطاف، الدقائق الأولية، وربما الأوتار المهتزة. تماماً كالسلاحف، فالاختزالية تقطع الطريق بطوله (ولكن، خلافاً للسلاحف، فهي تتوقف عند المكون الأساس في الطبيعة، التي اعتُقد سابقاً أنه الذرة ويُعتقد حالياً أنه الوتر المهتز).
ومن المهم أن نشير، مع ذلك، إلى أن الاختزال لا يعني أن الفيزياء، الأكثر الأساسية من كل العلوم، يمكن أن تفسر كل شيء في الطبيعة من تلقاء نفسها. فالظواهر المتكونة على مستوى أعلى تتطلب قوانين منفصلة، بالإضافة إلى المزيد من القوانين الأساسية، ليتم تفسيرها. بعبارة أخرى، فالاختزالية لا تعني أننا نستطيع الاستغناء العلوم ذات المستوى الأعلى، والأساسية الأقل، كالعلوم الاجتماعية. ومرة أخرى، واينبرغ يفسر ذلك تماماً في كتابه عام 1992 “أحلام بنظرية نهائية”:
“أعتقد أن هناك حساً يمكن به تفسير كل شيء وفق قوانين الطبيعة وأن قوانين الطبيعة هي ما يحاول الفيزيائيون اكتشافه. ولكن التفسير هو تفسير من حيث المبدأ بحيث لا يهدد بأي شكل استقلالية العلوم الأخرى. ونحن نرى هذا حتى ضمن الفيزياء نفسها. فدراسة الميكانيكا الإحصائية، أي سلوك عدد كبير من الدقائق، وتطبيقاتها في دراسة المادة عموماً، كالمادة المكثفة، البلورات، والسوائل، هي علم مستقل لأنك حين تتعامل مع أعداد كبيرة جدا من الدقائق، تبرز ظواهر جديدة. لنأخذ مثالاً استخدمته في كل مكان، حتى لو حاولت التوجه الاختزالي ورسمت حركة كل جزيء في كوب من الماء باستخدام معادلات الفيزياء الجزيئية لمتابعة كيف ذهب كل جزيء، في أي مكان في خضمّ شريط الحاسوب الذي أنتجه لن تجد الأشياء التي تهمك بشأن الماء، كالاضطرابات، أو درجة الحرارة، أو الإنتروبيا. كل علم يتعامل مع الطبيعة وفقا لشروطه لأن كل علوم يجد شيئا آخر في الطبيعة يثير الاهتمام. ومع ذلك، ثمّة شعور بأن مبادئ الميكانيكا الإحصائية هي ما هي عليه بسبب خصائص الجسيمات التي تتكون منها الأجسام. فالميكانيكا الإحصائية لا تمتلك المبادئ التي تقف وحدها والتي لا يمكن استنتاجها من مستوى أعمق.”
وبالمثل، لا يمكن لقوانين الأحياء التطورية وحده أن يفسر لماذا يصبح بعض الرجال ممتهنين للإجرام في حين أن آخرين يصبحون مواطنين ملتزمين بالقانون، أو لماذا بعض الزيجات تدوم إلى الأبد والبعض الآخر ينتهي بالطلاق، ناهيك عن أسباب الحروب والثورات وحدوث الركود الاقتصادي. من أجل توضيح هذه الظواهر الناشئة كلية-المستوى macrolevel، يحتاج المرء لقوانين علم الاجتماع، العلوم السياسية، والاقتصاد. ومع ذلك، فهذه القوانين الإضافية من العلوم الاجتماعية لا يمكن أن تتعارض مع قوانين أكثر عمقاً في الأحياء التطورية.
فعلى سبيل المثال، إن نظرية متكاملة كل-اجتماعية للثورات لا يمكن أن تحتوي على افتراض ينصّ على أن البشر الفاعلين يقيمون بالتساوي رفاهية نسلهم الوراثي مع نسل شخص آخر، أو أن الرجل والمرأة لديهما استعداد متساوي للانخراط في العنف الجسدي. بعبارة أخرى، فالعلوم الاجتماعية للبيولوجيا التطورية هي ما الميكانيكا الإحصائية لفيزياء الدقائق الأولية في اقتباس واينبرغ أعلاه. معيدين عبارة واينبرغ، فالعلوم الاجتماعية لا تملك المبادئ التي تقف وحدها ولا يمكن استنتاجها من مستوى أعمق.
ليدا كوسميدس وجون تووبي، وهما من أسّسا علم النفس التطوري، يذكراننا بأنه قبل غاليليو ونيوتن، كان العلم السماوي (حول حركات الأجرام السماوية)، والعلم الأرضي (حول حركات الأشياء على الأرض) ينظر إليها كعلوم منفصلة، تحكمها مجموعات منفصلة من القوانين والمبادئ. لقد كانت خطوة كبيرة إلى الأمام في تاريخ العلوم أن كـُسر الجدار الفاصل بينهما، كما فعل غاليليو ونيوتن، وأن اعتُرف بأن نفس المجموعة من القوانين والمبادئ تنطبق على كل الأجسام السماوية والأرضية.
هذه، لسوء الحظ، هي الحالة المؤسفة للعلوم الاجتماعية اليوم. فالعلوم الاجتماعية في القرن الـ21 هي في مكان العلوم الفيزيائية في القرن الـ17. والعلماء الاجتماعيون يعتقدون بالفصل الصارم بين علوم الإنسان (الاجتماعية) حول سلوك النوع الإنساني، وبين علوم غير الإنسان (البيولوجيا) حول سلوك سائر الأنواع في الطبيعة. وستكون خطوة كبيرة إلى الأمام في تاريخ العلوم أن يُكسر الجدار الفاصل بينهما أيضاً، وأن تضمّ العلوم الاجتماعية تحت البيلوجيا.
أختم هذا الإدراج باقتباس آخر مفضل لدي من واينبرغ.
“السبب في إعطائنا الانطباع بأن فيزياء الدقائق الأولية هي أكثر أساسية من سائر فروع الفيزياء هو أنها كذلك.”
والسبب في إعطائنا الانطباع بأن علم النفس التطوري هو أكثر أساسية من سائر فروع العلوم الاجتماعية والسلوكية هو أنه كذلك.
تعليق واحد على العلوم الاجتماعية هي فروع من البيولوجيا
بينما أنا أقرأ مقالاتك المُترجمة في علم النفستطوري، أقول، “كيف لم أقرأ في هذا العلم من قبل؟!”
إنه أكثر العلوم الإنسانية فاعلية ومنطقية على الإطلاق. لم أر علمًا متكاملًا، رغم حداثته، كذلك من قبل!
وقد يتفوق على العلوم الاجتماعية في غضون عقد أو عقدين على الأكثر، إن لم يكن متفوقًا الآن!