“أضحك بعفوية ألوهية. لا أضحك عندما أكون حزينا، وعندما أضحك، ألهو جيدا” جورج باتاي

I. ظاهرة هارلم تشيك

في البدء كانت هارلم تشيك مجرد رقصة نابعة من قاع الأحياء الشعبية الأمريكية يقول مصمّمها “آل بي” أنها تضمر تعبيرا عن جسد في حالة سكر مطبق أو ربما هي تعبير عن حركة المومياء. اعتمد هذه الرقصة بعض الشباب الاسترالي في مشهد فيديو لقي شهرة كبيرة على صعيد الشبكة العنكبوتية ظهرت فيه الرقصة مع إضافة عنصرين هامين: الأقنعة مع أغنية إيقاعية. كانت الأغنية الإيقاعية من وضع مقدم الأغاني المسجلة والمنتج الأمريكي “باور”، وتتميز بانطلاقة إيقاعية تصاعدية إلى أن تنقلب إلى إيقاع راقص مميز.

يبقى أن هارلم تشيك التي لقيت رواجا عالميا مهما، والتي غدت الملمح النموذجي للظاهرة، استقرت على النحو التالي: ينطلق المشهد، على إيقاع الموسيقى التصاعدية، من خلال وضعية اجتماعية اعتيادية وضمن إطار نظامي روتيني محافظ كالعمل أو المدرسة أو الشارع أو ثكنة جيش… وتبرز داخل هذا المشهد الأول شخصية غير منضبطة، ساخرة، تعبّر عن قصور ما أو جنون أو حمق. ومع حلول زمن انقلاب الإيقاع الراقص، يتحوّل المشهد إلى فضاء كرنفالي، يغلّف الجميع، حيث يختل النظام كليّا وتظهر الأجساد مقنّعة وهي تعبّر في فجور وهياج عن فوضى مضحكة.

يبقى، لفهم الظاهرة مليّا، يجب أن نحدد ماهية الفضاء الكرنفالي.

II. الفضاء الكرنفالي

في القرون الوسطى، يحدثنا ميخائيل باختين، عن ابتهاجات الكرنفال، التي تسبق فترة “الصوم الكبير”، والأعياد الشعبية المشابهة: كأعياد المجانين والحمار والأبرياء… يقدّم لنا باختين فضاء عموميا تشغله فئات معربدة تحمل عبق الاحتفال الجنوني والمرح الصاخب والانتهاك الفاضح للقوانين والحدود، إنّه مجال ينصهر فيه الجسد مع المجموعة في لحمة متحدة يتجاوز معه فرديته، فيتبدى ضمن منطق بهيج يقوم على التذبذب ما بين وضعية الممثل والمتفرّج. تداخل عام تدمّر تحت سطوته المبادئ الأكثر تقديسا، وتكون السيادة للانظام والفوضى. تكون الساحة العامة، حينئذ، مسرحا للمشاهد الطقوسية التي تشغلها شخصيات ساخرة مقنعة: كالمهرج والمجنون وملوك الكرنفال، كما تشغلها التآليف اللفظية الهزلية ومختلف تكوينات اللغة البذيئة والأفعال الداعرة. هو إنقلاب على كلّ ما يعدّ رصينا ورسميّا ومبجلا.

علينا، لفهم الكرنفال، أن نتخلص من تلك الصورة الباهتة للكرنفالات الراهنة التي تتسم بالقدرة على التنظم والتقنين، حيث تعمد المؤسسات الرسمية والتجارية إلى تكوينها لغاية التسلية والترفيه عن الجمهور. في الآن نفسه الذي يجب أن لا نحشر الكرنفال ضمن صورنا عن الأعياد الرسمية التي تؤسسها الفئات الحاكمة ورجالات الدين والتي تقوم على ترسيخ الأعراف والطقوس المهذبة كما تكرّس التراتبية الاجتماعية والدينية العادية. الكرنفال يقوم على مبدأ الفوضى والانتهاك والاختلاط في حين يكون العيد الرسمي قائما على التنظم والتثبيت والانفصال.

ولاستيعاب معنى الكرنفال، عليكم تصوّر التالي: في حياة مستقرّة ومقيدة بنظام من المحظورات المقدسة والقوانين المطلقة، تتنازل فئات شعبية ضخمة عن حرصها الأخلاقي لتجتمع بالساحة العامة يملؤها الحماس. وتنفجر الجموع صاخبة منساقة إلى أشدّ الأفعال نزقا وتفلتا، حيث يرتدون أقنعة غريبة ويعاقرون الخمر بإسراف ويرقصون على نحو ماجن ويتلفظون بعبارات نابية وقحة. إنهم يخرجون من دائرة التقتير والحرمان، رمزيا وماديا، إلى فضاء التبذير والتبديد. وفي خضم كهذا، ينبع العنف تلقائيّا، لا ليقطع الاحتفال، بقدر ما يكون افرازا حماسيّا يساهم في إضفاء الطابع الاحتدامي على الساحة. وسط كلّ هذا، ومن حين إلى آخر، تنفض أزواج الراقصين لتلتحق بالغابة كي تمارس الجنس ثمّ تعاود الرقص من جديد إلى حلول الصباح*

 ويهمنا من هذا المعترك الاحتفالي البهيج، تحديد بعض الخواص الأساسيّة، والفاعلة، التي تداخل الكرنفال كما حدّدها باختين، إذ سنركز على نقطتين هامتين منها:

أ. الضحك: حيث يفصح الضحك الجماعي، بعفويته، عن تمرّد وتحرّر إذ يكسر عقال الامتثال والصرامة والتساكن. فهو يبرز كحركة تسخر من صلابة العادة وسطوتها، كما تخرق معقولية التراتب الاجتماعي والتمييز المقدس وعلوية السلط الدنيوية، متخلصة من الخوف، لتهزأ منها وتجعلها موضوعا متهافتا أمام بهجتها الطاغية. يقول باختين: “ليس ضحك العصور الوسطى إحساسا ذاتيا، فرديا، بيولوجيا باستمرارية الحياة، بل إحساس اجتماعي، كوني. فالانسان يشعر باستمرارية الحياة في الساحة العامة، حيث يختلط بجمهور الكرنفال، وحيث جسده يحتك بأجساد بشر من جميع الأعمار ومن جميع المستويات، إنه يشعر أنه فرد من الشعب..، إن ضحك العيد الشعبي ينطوي على عنصر انتصار على الخوف، ليس فقط الخوف الذي توحي به أهوال الآخرة، والأشياء المقدسة والموت، بل أيضا ذاك الخوف الذي توحي به كلّ سلطة، الأسياد الأرضيون، الأرستقراطية الاجتماعية الأرضية، كلّ ما يقمع ويحدّ من الحركة”

ب. الجسد الضاحك (أو الجسد السخري): هو يَمْحي تفرّد الجسد لينصهر ضمن المجموعة، فلا يحافظ على ملامحه الطبيعة ولا هويته المعتادة، وغرضه من هذا ليس التحوّل إلى إنتماء آخر بقدر ما يسعى إلى المشاركة ضمن المجموعة في خلق عرض هزلي. هو تنكر، إذن، داخل القناع أو عبر إبراز النتوءات والنواشز ليمتزج مع الجمهور، لا يقبل الفكاك منه، منفتح، غير راض عن كلّ حدّ وعرف أخلاقي ولا يكفّ عن انتهاك العادة والتخوم. جسد ينبعث بشكل متجدد. “إن الجسد المضحك، يقول باختين، لا يبتعد عن بقية العالم، لا ينغلق ولا يعدّ منجزا ولا جاهزا. لكنه يتجاوز ذاته، ويتخطى حدوده الخاصة. إن النبرة توضع على أجزاء الجسد التي يكون فيها هذا إمّا منفتحا على العالم الخارجي، أو يكون هو نفسه في العالم؛ أي على الفوهات والنواشز وكل المنافذ والتشعبات: كالفم الفاغر والأعضاء التناسلية والأثداء والبطون الضخمة والأنف” فلا يهتمّ  الجسد الضاحك بالظهور الموقر والمتجهم وحتى المعتاد بل يصل به المدى، كي يحقق غرضه الوظيفي الأول ألا وهو الإضحاك، إلى السقوط في هاوية وقحة ومقززة من ناحية احتفائه بالبراز أو البول أو القيء…

III. تلاميذ هارلم تشيك معهد الإمام مسلم

لم يخطر في بالهم أبدا بأنهم سيحدثون هذا الأثر العميق في المجتمع. طلبوا بتهذيب موافقة مديرة المعهد الثانوي، فكان لهم ذلك، وانطلق كلّ شيء ضمن أفق الدعابة أو النكتة أو المرح الجماعي. نشروا تجربتهم تلك على موقع التواصل الاجتماعي: فيسبوك. الذي حدث، بعد هذا، أن وزير التربية أعلن إعلاميّا، وفي وقت قياسي، فتح تحقيقا في الظروف الحافة بالتسجيل داخل المعهد وذلك تحت تأثير وتأليب أطراف محافظة. واتخذت الأحداث شكلا تصاعديّا، فقد فهم هؤلاء التلاميذ ومن ورائهم الشباب التونسي، أنّ هذا الفعل الغامض ولد أثرا استفزازيا عميقا، مسّ بالخصوص: الجهاز الحكومي والقوى المحافظة، فانطلقوا في حركة جماعية متواطئة يكررون نفس الفعل. وكانت المواجهة: طرفها الأول شباب يحمل ثقل العناد وطرفها الثاني جهاز الدولة المدجج بالقانون والقوة التنفيذية وطرفها الثالث القوى المحافظة وعلى رأسهم السلفيين.

 حاول البعض تفسير المسألة على أنه رفض ديني وأخلاقي للرقص، واعتقد البعض الآخر أن سبب الأثر يعود لتعرّي بعض الشباب ضمن المشهد، لكن المسألة في عمقها أكبر من مجرد ملمح واحد. فما أحدث هذا الأثر العميق هو الظهور المرعب للفضاء الكرنفالي** داخل المجتمع كتقنية احتجاجية. إنه ميلاد آخر، واستدعاء لفوضى الكيان الكرنفالي.

ففي مكمن جنون وجموح الفضاء الكرنفالي، ومن منبته الهامشي الغير المتوقع، تسكن الرغبة والتمرّد الفعل الانساني، لينطلق متخلّصا من أسر رصانته ورضوخه وتهذيبه إلى فورة الانعتاق الضاحك، حيث الضحك كما أعلنه باتاي هو “الانسجام الجوهري بين بهجتنا والباعث إلى التدمير الذاتي”. وحينما يحضر القناع هناك، لا يعلن التخفي أو الخوف بقدر ما هو تحدّ وانتهاك لأي سلطة مطمئنة، أليس القناع كما خبّرنا باختين “يرتبط بفرح التغيير وإعادة التجسيد، وبالنسبية المرحة وبالنفي البهيج للانتظام والتشابه” ؟ إن الجماعة في الفضاء الكرنفالي هنا تنصهر في وحدة متكاملة متوهجة وهي تسعى، بميوعة ضاحكة داعرة، إلى هدم الانتظام الطقوسي لساحات الاعتياد وبدلا عنها يبرز فضاء آخر سمته التعدّد الصاخب والاحتفاء بكل ما هو شعبي وهامشي. شعرية احتجاجية الفضاء الكرنفالي تبدو ملغزة ولكنّ أثرها المستفزّ واقع تلمسه هؤلاء التلاميذ وغيرهم في تونس كما بدى واضحا هناك في مصر أمام مقر الإخوان.

—————————–

* ويبقى تأويل الكرنفال مسألة إشكالية: فهل أن الكرنفال هو طقس تمرّد على المقدس والسلط الدنيوية، ويعدّ بالتالي، مقدمة لتطور عميق في صلب المجتمع؟ أم هل هو مجرد طقس عبور يعاد فيه تمثل الإنسان في حالته الأولى ما قبل المقدس والحكم، حينما كان في فوضى الكيان، لينتهي بعدها إلى سكينة المعتاد الاجتماعي؟ أم هل هو يؤسس قاعدة الانتهاك ليؤدي بالناس إلى التحرّر من الغرائز المكبوتة عادة ويحقق التطهّر؟…

** سيعلّق البعض: إذا كان الكرنفال تعبيرا ثقافيا غربيا مسيحيا، فكيف يمكن أن يكون وجها لمقاربة أي موضوع ينتمي لثقافة تدعي كونها عربية إسلامية؟ فبغضّ النظر عن مشروعية السؤال في فضاء معرفي يحتفي بالمقارنة، قد يدلّنا السؤال عن عدم الإلمام، لاعتبارات نخبوية ومذهبية، بمظاهر العيد الشعبي والهامشي في المجتمعات الإسلامية. فبرغم عدم وجود مدرسة تاريخية أو انتروبولجية داخل المجتمعات الإسلامية تعني بدراسة دقيقة للأعياد الشعبية والهامشية، فإن المقاربات القليلة أثبتت وجود الكرنفال. يحدّثنا قاسم عبده قاسم ضمن مقاربته التاريخية التي تركز على الموروث الشعبي في مصر، وفي كتابه “عصر سلاطين المماليك“، عن أعياد القرن الثامن الهجري ذات الملامح الكرنفالية كعيد الشهداء وعيد النيروز، كما يصوّر لنا صراعها مع مختلف الاتجاهات المحافظة والتي تسببت في طمسها. من ناحية أخرى، وفي مقاربة أنتروبولجية عميقة، يصوّر لنا عبد الله حمودي في كتابه “الضحيّة وأقنعتها: بحث في الذبيحة والمسخرة بالمغارب” الظهور الكرنفالي من خلال احتفالية مرافقة للأضحية في المغرب العربي. بالإضافة إلى مقاربة اجتماعية أخرى، لعبد الغني منديب دونها في كتابه “الدين والمجتمع: دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب” يرصد فيها أيضا ملمحا آخر للكرنفال في العاشوراء…