تجاوزت شبكة شباب الشرق الأوسط شائعات مُغرِضة كثيرة منذ نشأتها، بعضها لاقى انتشارًا واسعًا، والبعض الآخر لم يبرح دائرة مروِّجيه. وقلّما بحِرت أسباب هذه الشائعات، كما أي شائعات أخرى تخرج عن أفواه عقول خاوية، عن دفتيّ حزب أعداء النجاح أو حزب أعداء الحرية. أمّا نحن، فكان ردّنا، دائمًا وأبدًا، إما بالنفي والتوضيح إذا لزِم الأمر، أو التجاهل والنأي إذا تمادى هؤلاء، حتى لا نأثم بالنزول عن مكانتنا ومكاننا.

وبعد قرابة أربع سنين من هذه النزالات التي أثرَت تجربتنا وصلبت عودنا، جعلنا نفكر في كنه الأسباب التي تضخّم أصوات التخلّف، بينما تكتم نغمات التنوير، وفي الرياح التي تخسف دائمًا بكل ما هو مشرق ومبدع وعقلاني، ولكنها في الآن ذاته تحمل كل ما هو مظلم ومتطرف وعدواني، وفي خصائص المجتمع الذي يكرّم مفسديه، بينما لا يجد مفكّريه إلا الخزي والمهانة والهرب في نهاية المطاف.

ما هو سبب تخلف دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عن بقيّة دول العالم المتقدم، والغرب خاصةً؟ ولماذا تجنح أغلبية شعوب المنطقة للقبلية في التعامل مع مشكلاتها، سواء كانت مشكلات علمية، أو دينية، أو دنيوية، أو حتى أسرية؟! مع أن، نفس المجتمع، الذي يتعامل مع النفس ومع الآخر بحلول متخلّفة، يلجأ لوسائط الغرب التقنية للمساعدة في التغلّب على تحديّات الحياة، أو للرفاهية؟!

طرحنا هذا السؤال، وعزمنا على أن نحلّ، بما لدينا من تراكمات بحكم تعاملنا اليومي مع كم التقليدية التي تحيط بنا، طلاسم العقل العربي الذي يستخدم موقع فيسبوك وهاتف آي.فون، ولكنه في الوقت ذاته يتسلط على زوجته وأولاده، ويحكم على مخالفي العقيدة بالقتل، ويحلّ دم المفتنين؛ فقط لأنه سمع ذلك من أمراء قبيلته، أو رؤساء طائفته، أو شيوخ مذهبه. فهو يحتكم لعقله في أمور التكنولوچيا المتقدّمة في أول يومه، ولكنه سرعان ما ينزعه، في بقية اليوم، ليضعه على رف التقاليد مصابًا بصدأ الضمور ومتربًا بعلل التخلف.

إجابة التساؤل الموجود في العنوان هو بسيط للغاية، وهي؛ لتلوث هواء الشرق الأوسط! إن هواء المنطقة فاسد وسام وخانق للحريات والإبداع، بل وأي نشاط إنساني فردي خارج سرب القطيع المختوم بخاتم الدولة والدين والعادات والتقاليد البالية. ومن يحاول كسر هذه التابوهات، وجب عليه أن يدفع الثمن غاليًا، الذي قد يصل لحياته أحيانًا.

إن الثبات المزمن يصيب حيواتنا بالشلل. وإن لم يحاول المتنوّرين من تحفيز هذه العقول لمساعدتها على التفكير والخروج من الدائرة المُفرغة. لن تتركنا الأيقونات، وتذهب أدراج معابدبها، بل سوف تظل جاثمة على صدورنا ومسلّطةً على رقابنا. وسوف تظل مصدرًا لإرهاب كل من تسوّل له نفسه للخروج عن النص أو التفكير خارج المربّع. وقد وقفنا على مسببات الشلل الفكري والإبداعي في المنطقة؛ لرصد الظواهر التي تقودنا لما نحن فيه الآن من تلوث ثقافي وحضاري؛

أولًا، القهر السياسي الداخلي

لا توجد دولة واحدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، باستثناء أربعة لحقتهم العراق مؤخرًا، لديها ديمقراطية حقيقية. بل ولا يقبل سلاطين وملوك ورؤساء هذه الدول بأي تسوية أو نصف فرصة للسير قدمًا على طريق هذا التحول. وحكومات دول المنطقة الديكتاتورية لا تسمح بوجود معارضة تشكّل خطرًا أو تهديدًا على مُلكها أو مصالحها.

حكومات المنطقة شمولية بالتوارث، إمّا عسكرية أو دينية أو ملكية، والمدنيون يُلاقون شتّى أنواع التنكيل حسب حظهم العثر، إما محاكمات عسكرية، أو محاكمات دينية، وكلاهما شر.

تقهر الحكومات الأقليات، ولا تقبل بأي فرصة للتداول السلمي للسلطة، وتبطش بالمعارضين، وتعتقل النشطاء السياسيين والكتاب والمبدعين والمدوّنين، حتى إن المنطقة بها أقدم رئيس جمهورية على الإطلاق، هذا بخلاف تزوير الانتخابات، والفساد المالي، والفساد القضائي، بالإضافة إلى السياسات التوريثية والعشائرية. كل هذا القهر السياسي الداخلي الذي تعجّ به المنطقة يكبح أي نسمة من نسمات حرية الرأي والتعبير، بل ويُفقد الأفراد أي أمل في التغيير.

لقد تراكم القهر السياسي الداخلي عبر أربعة أو خمسة عقود، ما بعد-الاستعمار، مما دفع بالشباب للتحقق من خلال المد الديني المتطرف لإفراز طاقاتهم، علّهم ينعمون بنهاية سعيدة بعد كوابيس حياتهم حسب ما يروّج دعاة طاعة وليّ الأمر، وقد وجدوا الدعم السياسي والمالي من الخليج، والدعم البشري من كل مكان آخر بالمنطقة، وهو ما سوف نتعرّض إليه في نقطة قادمة بالتفصيل.

وتفاقم هذا الوضع يتضح لنا من عدة مؤشرات، أهمها مؤشر الديمقراطية التي تُصدره مجلة إيكونوميست البريطانية، والمؤشر يصنّف دول العالم حسب مقياس من 10، وفق خمسة عناصر تقييم أساسية، وهي العملية الانتخابية والتعددية السياسية، الحريات المدنية، أداء الحكومة، المشاركة السياسية، وأخيرًا المناخ السياسي في العام. وقد وضع التقرير، الصادر في عام 2008، كل دول المنطقة في ذيل الترتيب تقريبًا عدا خمسة دول، وهم إسرائيل، تركيا، لبنان، السلطة الفلسطينية، والعراق التي أخذت 4 من 10 تمامًا. أمّا كافة دول المنطقة الباقية تحصّلوا على أقل من 4، وهذا يعني، بحسب تصنيف التقرير، أنها حكومات ديكتاتورية.

ولعل مؤشر الشفافية الدولية، الذي يصدر عن منظمة تي.آي. وهي منظمة دولية غير حكومية مقرها في برلين بألمانيا وهي معنية بالفساد الحكومي على كافة الأصعدة، يثبت لنا أن التحول الحقيقي يحدث في الخليج، نتيجة الانفتاح الاقتصادي الذي سوف نشير إليه لاحقًا. ودول الخليج هي الوحيدة في المنطقة التي أخذت علامات جيدة نسبيًا في تقرير عام 2009، وهي قطر والبحرين والكويت وعُمان، بالإضافة إلى إسرائيل. أما بقية دول المنطقة لم تأخذ أكثر من 3 علامات من 10.

وعلى صعيد تقارير أداء دول المنطقة بالنسبة لحقوق الإنسان، فإن كل دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تقريبًا، قبعت في ذيل معظم التقارير السنوية، التي صدرت في عام 2009، عن منظمات مثل هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية.

ثانيًا، التوتر السياسي الخارجي ونظرية المؤامرة الصهيونية


منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي من أكثر مناطق التوترات السياسية الإقليمية والنزاعات المسلّحة في العالم، وقد شهدت هذه المنطقة حروبًا دامية على مدار تاريخها. بل ولم ينزح الاستعمار الخارجي رسميًا عن المنطقة إلا في عام 1977 فقط، وهو تاريخ انفصال دچيبوتي عن فرنسا. هذا بخلاف استعمار دول المنطقة لبعضها البعض مثل العراق للكويت وإثيوبيا لإريتريا، والحروب والنزاعات الإقليمية التي لا تنتهي خاصة مع إسرائيل على مدار نصف القرن الماضي وحتى الآن، وأخيرًا، حرب العراق الدائرة رحاها منذ عام 2003. وهذا بالتأكيد يرجع إلى جغرافيا المنطقة الحساسة التي سوف نؤجلها للجزء القادم.

وجود دولة إسرائيل منذ عام 1948 في قلب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يشكّل هو الآخر ذعرًا كبيرًا وهوسًا بين معظم دول المنطقة. وبدلًا من التعامل مع الأمر الواقع، والاتجاه في طريق الحوار والتعايش السلميين. فإن الجانبين، العربي والإسرائيلي، مازالا يتمسكان بتطرفه، وأحلامه، ونظرياته، وتجاهله للآخر.

فمن جهة، تبرر إسرائيل انتهاكاتها ضد الشعب الفلسطيني بنظرية المؤامرة العربية التي تريد أن تمحوها من الوجود، ولا تريد السير قدمًا في خطى سلام دائم وشامل في المنطقة بالسماح للّاجئين بالعودة وإنهاء الصراع. ومن الجهة الأخرى، فإن بعض حكومات المنطقة الأخرى تبرر إجراءات القهر ضد شعوبها، خاصةً في فلسطين التي لا تزال تعيش في رحى ما يشبه بالحرب الأهلية، بالمؤامرة الإسرائيلية الصهيونية في المنطقة. وبين نظريتي المؤامرة، يتيه صوت العقل، وتُكتم كل الأصوات الداعية للسلام وإنهاء حالة التوتر المزمنة. بل ويوصف أي من تسوّل له نفسه، من أي من الجانبين، بالتحليل العقلاني وعدم الكيل بمكيالين، بالخيانة والعمالة إلى آخر هذا الهُراء. وكأن كل فريق سوف يظل عدوًا للآخر مدى الحياة.

المؤلم في الأمر أن الأجيال الجديدة ترث هذا الحقد والكره للآخر، مع أنها لم تعايش أي من هذه الصراعات، وهذا يعد تهديدًا جديدًا لأي محاولة لتقبّل أو فهم الآخر. لأنه طالما كل فريق مازال مصممًا على مطالبه كاملة، بلا تسوية عادلة للطرفين، فإن الحال سوف يظل كما هو عليه ولأجيال عديدة لاحقة.

أما نظرية المؤامرة في الجانب العربي بالتحديد، فحدّث ولا حرج! لأن أي فتنة، سياسية كانت أو دينية، ينسبها القطيع لإسرائيل، وكأن إسرائيل موجودة في هذه المنطقة بالتحديد لفتنة شعوبها. وبالتدريج، ومع التكريس لهذه الخرافة في اللاوعي الجمعي للأجيال المتعاقبة، أصبحت إسرائيل مثل كيان جاهز نعزو إليه كل فشلنا وإحباطاتنا وتخلّفنا. والأعجب أن أي فكر جديد أو انفتاحي، ينسبه القطيع بلا تردد “للكيان الصهيوني الذي يصبو إلى تدمير شبابنا وبناتنا بهذا الفكر أو ذاك!” وهذا ليس صحيحًا على عموم الحال، لأن المجتمع الإسرائيلي يعاني نفسه من كل سلبيات المنطقة المحيطة به، والحال هناك، بصدد تقبّل الآخر وحرية الرأي، هو بنفس السوء التي تعاني منه كل دول المنطقة، وكأن الشرق يشكّل بؤرة، معدّة مسبّقًا، لعدوى عدم تقبّل الآخر.

والرسالة التي نحرص على توجيهها هنا أنه لا صحة لوجود جماعات أو مجموعات “تحأرضية” تمرّر، أو تساعد على تمرير، الفكر الصهيوني، أو حتى مارست هذا التمرير على مدار التاريخ، إلا في محض خيال هؤلاء المهووسين بنظرية المؤامرة. والفكر الصهيوني هو فكر قائم بذاته، وهي نظرية سياسية، يجب أن نتعامل مع المؤمنين بها بالرويّة والعقل، وليس بالهمجية المعهودة. وهي مثل أي نظرية سياسية، كاليمين الجديد، أو اليمين الديني، أو اليسار الديمقراطي، لها مؤيدوها ولها معارضوها. وليست هي سبب كل شيء وأي شيء سلبي تعاني منه شعوب المنطقة.

ثالثًا، السيطرة الحكومية على الاقتصاد (الاقتصاد الموجّه)

إن دول المنطقة، باستثناء دول الخليج، تعاني من مساوئ التدخّل الحكومي المزري في الاقتصاد، وبالتالي عرقلة الاندماج في الهيكلة العولمية التي تفتح الأسواق والعقول معًا.

إن فتح الأسواق ساعد أهالي إمارة مثل دبي، على سبيل المثال، على فتح آفاق جديدة لهم، وأصبح لا مفرّ لديهم من تقبل الآخر. فهنالك في دبي يعيش كل الأجناس والأعراق تقريبًا. وإذا كان لمواطني دبي، نظريًا، نفس عقلية مواطني رأس الخيمة، على سبيل المثال، فإن تفتّح مواطني الأولى، ولو نسبيًا، نعزوه للانفتاح الاقتصادي الهائل الذي تشهده منذ سبعينات القرن الماضي.

إعاقة الاستثمارات الخارجية والشركات متعددة الجنسيات (Multinational Companies)، وغلق الأسواق أمام المنتج الأجنبي، وحماية المنتج الوطني (Protectionism)، كلها عوامل تصبّ في البحر الميت للجفاف الثقافي والحضاري، وهي تؤثر بشكل مباشر في تقبّل الآخر وحرية التعبير عن الرأي وحرية الإبداع.

أما الاختلاط بثقافة الآخر الأجنبية في المشاريع متعددة الجنسيات التي تقام في المنطقة، فهذا يساعد الأفراد على التواصل مع ثقافات أخرى عمليًا، وتقبّل هذه الثقافات على اختلافاتها؛ لأن الربح، وهو الغرض الرئيسي لأي شركة خاصة، يجعل من السهل التغاضي عن أي وسم خاص بالآخر، مثل جنسه، جنسيته، لغته، آرائه، ميوله، أو دينه، في سبيل التحصّل على فائدة أعلى.

ويقيس تقرير الحرية الاقتصادية، الصادر عن مؤسسة هريتيدچ الأمريكية ووول ستريت چورنال، مدى مرونة الاقتصاد، في الدول قيد المسح، وحجم عدم التدخّل الحكومي في عجلة السوق. ويصنّف التقرير السنوي دول العالم وفق عشرة عناصر تقييم تشمل الاقتصاد والتجارة والاستثمار. وأوضح آخر تقرير، والذي صدر هذا العام في 2010، تقدّم دول الخليج وإسرائيل على خارطة الحريات الاقتصادية، وهي الدول التي أُطلق عليها متوسطة الحرية الاقتصادية، أما معظم دول المنطقة الباقية، شمال أفريقيا والشام واليمن، تحصّلوا جميعًا على علامات تقييم متدنية، ووسموا بالدول “غير الحرة اقتصاديًا.” وفي بعض الأحيان، “مكبوتة اقتصاديًا،” وبعض هذه الدول قبع في أدنى جدول التقييم، ومنها ليبيا والعراق.

رابعًا، مد التطرف الديني

إذا كانت أولوية للأسباب الماضية امتدت على مدار قرن مضى من الزمان. فإن التطرّف الديني، على مدار نصف القرن الماضي وحتى الآن، وخاصةً بعد بزوغ المملكة العربية السعودية اقتصاديًا في أعقاب اكتشاف النفط في آواخر ثلاثينات القرن الماضي. وتدريجيًا، وعلى مدار هذه العقود، أصبح للمد الديني المتطرف نصيب الأسد في التلوث.

إن تلويث العقول، وخاصةً النشء، لا يقلّ بشاعة عن تلويث قماشة ناصعة البياض بدم أحمر قانٍ. إن اتحاد الدين بالسياسة لهو من أشدّ الأكذوبات ترويجًا، وأحد أكبر أسباب الانحطاط الثقافي في مجتمعاتنا، وخاصةً مذاهب الدين البترودولارية التي تصدر العنف والإرهاب.

إن سطوة الدين في المنطقة يرهب العقول المبدعة، ويقيّد إبداعها بأغلال من حديد، بحيث لا تبرح مسجن الأفكار الكبير، خوفًا من الحرق والقتل والحد. وهو ما يزيد الهوة بين جمهور القطيع من جهة وبين حرية التعبير من جهة أخرى. وهذه هي نفس النار التي تزكّي السطحية والتطرف والمغالاة في المظاهر، لانعدام وجود جوهر بديل لإفراز الطاقات، خاصةً لدى الشباب التي تجري في دمه الحماسة التي يشتريها رجال الدين بالترغيب والترهيب، ولهم في ذلك مآرب شتى عند السلطان.

إن رياح حرية العقيدة غائبة كليًا عن سواحل المنطقة بفضل التطرّف الإسلامي المستشري، بل وحتى القهر يطول المذاهب المختلفة، مع أنها تُدين بنفس دين الأغلبية، ويُقابل العلمانيون بدعاوى التكفير والحسبة. ويظل الحال كما هو عليه، وتشويه العقول مستمرّ وجاري، بمباركة السلطان الذي يفتح باب القنوات الفضائية على مصراعيه لاستقبال قنوات التطرّف الديني، والتي تُشعل فتيل العنف والفتن الطائفية، ولكنها في الوقت نفسه تساعد هذه الأنظمة على البقاء على كراسيها لأطول فترة ممكنة.

خامسًا، الرقابة على الإعلام والإنترنت


ساعدت الثورة المعلوماتية، في العقد الأخير، على فضح الأنظمة السياسية الديكتاتورية، خاصةً من خلال الإنترنت والستالايت. ولكن مازالت الأنظمة السياسية الفاسدة في المنطقة تُخضع منابر الإعلام الحكومي من صحافة وإذاعة وتلفاز، بينما يعلم البيروقراط جيدًا أنه قد أصبح في مقدور شعوبهم الاطلاع على الشأن الداخلي من خلال المصادر الأجنبية ووسائل الإعلام الاجتماعي المختلفة.

ومع مرور الوقت، أصبحت الأجهزة الإعلامية الحكومية تنزع إلى إعلان التفاصيل غصبًا، والتي لم تكن تُعلنها في الماضي تحت أشدّ الظروف قسوةً، خشية الفضيحة من وسائل الإعلام الأجنبية، مع التعليل. وهذا، وإن كان إجراءًا احترازيًا أُجبر عليه أخاك وليس بطلًا، فإنه يفضح الحكومات، ويضعها في ركن المحاسبة من دافعي الضرائب، وهي السياسات الغائبة تمامًا في المنطقة.

تفضّل الحكومات الآن، وفي ظل الإعلام الاجتماعي والانفتاح التقني غير المسبوق، فضح النفس أفضل من الفضيحة العالمية، لأنه، لديها، أفضل بكثير من إثارة سخط الأفراد بالتمادي في التجاهل. وهي السياسات التي تعدّ، في نفس الوقت، سياسات”تنفيسية” من شأنها تفريغ الشحن الذي يستقيه الأفراد من مصادر الإعلام الخارجية.

ومن ناحية أخرى، فإن الحكومات تنفخ في صوت التطرف الوهابي القاحل، كونه يشاركها معادلة اتّحاد المال بالسلطة، وكونه أيضًا يروّج لمفاهيم سلبية، مثل، “طاعة وليّ الأمر.” ولهذا، فإن الحكومة المصرية، على سبيل المثال، تفتح أبواب القمر الاصطناعي المصري نايل سات على مصراعيه لاستقبال قنوات التطرف الديني، والتي تنقّف سمومها لجموع القطيع الذي يشاهد التلفاز أكثر بكثير مما يقرأ الكتب، أو يطالع الإنترنت، أو يحتك مع الآخر، مما يُزيد من هوّة الانزواء عن الآخر، وإقصائه، بل وكتم أنفاسه. بل ولم تستطع أي محطة إذاعة أو قناة فضائية مسيحية أن تتحصّل على ترخيص لتبث موادها، إلا مؤخرًا، وبعد معاناة مريرة. بالرغم من أن إدارة قمر نايل سات، ومنذ نشأته، سنّت لائحة تنصّ على ألا تُسمح لأي قناة دينية أن تبثّ موادها على هذا القمر، كي يحتفظ بهويّته العلمانية، ولا يساهم هذا في إعطاء فرصة لأعداء الحرية كي يستغلّوها. ولكن، وعلى ما يبدو، فإن سلطة الحكومات في المنطقة أقوى بكثير من سلطة القوانين واللوائح.

وفي تقرير جمعية مراسلين بلا حدود، الصادر في آواخر عام 2009، حول حرية الصحافة، تقبع معظم دول المنطقة في آخر ثلاثين مركزًا من أصل 175 دولة، تم مسحهم. بل وإن أول دولتين في المنطقة لم يأتيا إلا في المركزين 61 و62، وهما للكويت ولبنان على التوالي. وهذا التقرير يضع في اعتباره عدة عناصر للتقييم، منها هجمات العنف والاعتقال ضد الصحافيين. الجدير بالذكر أن هذا التقرير لا يقيّم مستوى وجودة الخدمة الصحافية، بقدر ما يقيّم الحرية التي يتمتع بها الإعلاميون في إبداء آرائهم.

لقد ساهم الإعلام الاجتماعي، أو الإعلام البديل، بلاشك، في زيادة نسب الوعي لدى الأفراد والشباب. ولكنه لم يبلغ بعد حد القوة والتأثير اللذين يتمتع بهما قوى الإعلام التقليدي “المؤممة” من قِبل الحكومات، للتغطية على قراراتها وسياساتها. خاصةً مع حجم الجهل المتفشّي على نطاقات واسعة بين شعوب المنطقة. ولكن نعتقد أنه بعد جيل أو اثنين، عندما تصبح الأغلبية العظمى في المنطقة من مستخدمي الإنترنت، لن يقوى الإعلام الحكومي على مواجهة الإعلام الاجتماعي. وسوف يقود الإعلام الاجتماعي لواء فكر جديد يحترم الرأي والرأي الآخر بصدر رحب – بلا أقنعة برّاقة تُخفي ترهلًا وسوادًا.

أما بالنسبة للإنترنت، فنشظاء الإنترنت يُسجنون ويُعتقلون، ومواقع الإنترنت تُحجب. وفي تقرير آخر لجمعية مراسلين بلا حدود يُسمّى “أعداء الإنترنت،” وهو تقرير سنوي حول حرية التعبير من خلال الإنترنت، صدرت آخر دورية منه في مارس 2010، وضع خمس دول، من بين دول المنطقة، “كأشد أعداء الإنترنت في العالم،” بحسب التقرير ذاته، وهم بالترتيب؛ السعودية، مصر، إيران، سوريا، تونس. وعرّفهم كأشد الدول انتهاكًا لحرية التعبير على الإنترنت. هذا بالإضافة إلى دول أخرى وُضعت تحت مراقبة القائمين على التقرير، نتيجة لبعض الانتهاكات في الآونة الأخيرة مثل تركيا والإمارات، بالإضافة إلى أعداء آخرين أُجري عنهم تدقيقًا شاملًا مثل البحرين، وإريتريا، التي تُعدّ “دولة مقطوعة عن العالم نتيجة ديكتاتورية وحشية” على حد وصف التقرير، حيث لا تتعدى مقاهي الإنترنت فيها أكثر من أربعين مقهى، كلهم في العاصمة أسمرة تقريبًا. وهذه الإحصاءات تفيد، بما لا يجعل مجالًا للشك، أن القهر السياسي ممتدًا من الواقع الحقيقي للواقع الافتراضي على شبكة الإنترنت.

سوف نستكمل بقيّة النقاط في الجزء الثاني من المقال.

* الصور المستخدمة من هذه المواقع:

- الصورة الأولي من موقع محيط.

- الصورة الثانية من مدونة نيو سينتريست.

- الصورة الثالثة من ويكپيديا.

- الصورة الرابعة من مركز التقييمات الاستراتيچية والميزانية.

- الصورة الخامسة هي غلاف تقرير جمعية مراسلين بلا حدود، أعداء الإنترنت.