كانت علاقة تركيا بالشيوعية محل جدل كبير و معلومات غير دقيقة جعلت من جمهورية أتاتورك إما مشروع غربي معادي للجماهير الكادحة أو مشروع شيوعي ضد الاسلام و بين هذا و ذاك تاهت الكثير من الحقائق التي ربما لو ظهرت لكان التاريخ أكثر بساطة لدينا ، التالي رصد لتاريخ علاقة تركيا بالسوفييت مع إسدال تاريخي للعلاقة بين العثمانيين و الروس ثم خلفاء اتاتورك و إن كانت النقطة الرئيسية مرتبطة بأتاتورك و السوفييت أو بالاصح أتاتورك و لينين..
..
تركيا العثمانية و الروس:
لم تكن أبداً العلاقة بين روسيا القيصرية و الدولة العثمانية علاقة طيبة بل كانت سلسلة حروب كبرى تدور حول السيطرة أساساً على القوقاز و البحر الأسود خاضت فيها الدولة العثمانية 12 حرب مع الروس منها 6 إنتصارات للروس بأعوام ( 1570 و 1700 و 1774 و 1792 و 1812 و 1878) و 4 إنتصارات للأتراك بأعوام (1574 و 1681 و 1711 و 1739)  و حرب إنتصرت فيها الدولة العثمانية بجيوش أوروبا المجتمعة في فضيحة مدوية لجيش الأتراك عام 1856 ثم الحرب العالمية الأولى التي تكاد تكون إنتهت بالتعادل بين الدولتين بسقوطهما معاً ، لذا لا يمكننا القول بأن العلاقة الروسية التركية ودية أو سلمية و لليوم تظل آثار هذه العلاقة و ما تلاها من علاقة الجمهورية التركية و الاتحاد السوفيتي طاغية على شعور الشعبية و رؤية العسكريين حتى مع زوال الحدود المشتركة بين البلدين فخلفية العلاقات غير ممكن وصفها إلا بالعدائية المطلقة.

اتاتورك الضابط و الروس:
بطبيعة الحال كتركي و كضابط عسكري كانت رؤية أتاتورك للروس رؤية عدائية مرتبطة بالصراع بالقوقاز و أوروبا و حماية إستانبول التي كاد الروس يحتلونها لو التحالف المسيحي الأوروبي لإنقاذ الدولة العثمانية ، من الجانب الآخر يمكننا القول أن أتاتورك بطبيعته الشخصية كان مقدساً لعلاقة تركيا باوروبا كوسيلة حتمية للنهضة بالدولة و مؤمن بحقوق الدولة التاريخية بالبلقان فلم يكن يظن أن الحروب المتتالية ستمكن الدولة من حماية أراضيها بالذات مع الروس الذين يمثلون خطراً و تهديداً حقيقياً و نرى ترجمة هذا في موقفه الرافض لدخول الحرب العالمية الأولى و سياسات الاتحاد و الترقي المتحالفة مع الالمان في سياسات موروثة عن الحكم العثماني المباشر بالذات في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ، كضابط عسكري قاتل أتاتورك بالقوقاز في حرب محكوم عليها بالفشل و إنتصار الروس لولا الظروف التي ساعدته بقيام الثورة في روسيا ضد القيصر مما دفع وحدات الجيش الروسي للإنسحاب و العودة لموسكو فتقدمت قوات الجيش العثماني ، مع نهاية الحرب كان أتاتورك قد إلتزم كضابط بالجيش بمعاهدة بريست ليتوفسك الخاصة بالسلام مع روسيا لتتحول العلاقة عملياً لموقف السلام البارد السابق لإنفجار الحرب العالمية و بهذا خرجت روسيا عملياً من مكانة العدو للدولة العثمانية لدولة صديقة ب 3 مارس 1918 و تُرسم صورة اخرى للعلاقات بين أتاتورك و الروس لاحقاً.

اتاتورك و لينين:
مع إحتلال إستانبول و سقوط السلطنة العثمانية بقبضة لندن و باريس تم تكليف مصطفى كمال بتسريح القوات المتبقية بالأناضول ضمن شروط هدنة مدروس لكن مصطفى كمال و قيادات الجيش الباقية كونوا منظمة وطنية و جيش مسلح للقتال ضد التحالف الأوروبي و حلوا محل الميليشيا الغير نظامية التي كانت تقاتل بالجنوب ضد فرنسا و محل منظمات اخرى صغيرة ، كانت الدولة الروسية المهادنة للدولة العثمانية هي خير معاون لمنظمة مصطفى كمال الجديدة بحكم كونها الاقرب و المعادية للغرب أيدولوجياً و سياسياً فكان من الطبيعي ان يبدأ الطرف الروسي في إرسال شحنات السلاح منذ عام 1920 حتى نهاية الحرب بعام 1922 و تنوعت الأسلحة بين ما يقارب 40 ألف بندقية و مئات الرشاشات السريعة الطلقات و ما يصل الى 150 ألف قذيفة و ربع طن من سبائك الذهب و ما يمثل 1/20 من ميزانية الحرب المالية و مساعدات اخرى ، كانت العلاقات تشمل أيضاً إتفاقيات سياسية لترسيم الحدود و توثيق العلاقات الديبلوماسية بين الجمعية الوطنية التركية (منظمة أتاتورك) و لينين كزعيم لروسيا السوفيتية فكانت معاهدة موسكو للصداقة في 16 مارس 1921 و تلتها معاهدة كارس 13 أكتوبر 1921 و التي رسمت الحدود بين تركيا و روسيا السوفيتية قبل حتى قيام الجمهورية التركية ، كانت العلاقات بين تركيا العثمانية بقيادة معارضة كمال اتاتورك و السوفييت علاقة وثيقة و صديقة و حرص مصطفى كمال في كل العلاقات على توثيق كونها مستندة لمعاهدة بريست ليتوفسك الخاصة بالصداقة بين الدولة العثمانية و روسيا القيصرية في تأكيد على كون العلاقات رسمية بين المنظمة و الروس مستندة لصلح الدولتين العثمانية و الروسية.

أتاتورك و الشيوعية قبل الجمهورية:
في الطرف الآخر للعلاقة مع السوفييت (و في تطابق مع الشيوعية بمصر إبان حكم الرئيس عبد الناصر) كان كمال أتاتورك حريصاً على تقليم النفوذ الشيوعي الداخلي بتركيا فلم يكن تحالفه و مساعدات السوفييت مقنعة له لتقبل مد شيوعي بالبلاد قد يمثل إحتلالاً نظرياً للدولة خصوصاً مع تجربة أذربيجان التي دخلها السوفييت بطلب من بلاشفة الدولة ، تأسس الحزب الشيوعي التركي في 10 سبتمبر 1920 في باكو عاصمة أذربيجان و كان العضو التركي مصطفى صبحي احد الحضور مع اتراك آخرين و أنتخب رئيساً للحزب و عاد لتركيا لينضم للمقاومة ، هنا قام كمال أتاتورك بشئ غريب نادر التوثيق إذ قام اتاتورك بالمشاركة في تأسيس حزب شيوعي في 18 أكتوبر 1920 -!- ليكون بديلا لنفوذ الحزب الاصلي برئاسة مصطفى صبحي و ليضمن ألا يمد لينين يد المعونة و الدعم له و بالفعل تحقق الغرض ، في 28 يناير 1921 تم قتل كافة مؤسسي الحزب الشيوعي برئاسة مصطفى صبحي في أثناء ذهابهم لباكو و عملياً لا أحد يعرف من قتلهم فهناك إتهام منسوب لمصطفى كمال بأنه من دبر العملية و إتهام آخر راجح لأنور باشا وزير الحربية السابق بالإتحاد و الترقي لكونه يقاتل ضد السوفييت بجنوب روسيا و إعتبر المجموعة خائنة لإخوانها الاتراك المحتلين في باكو و غيرها من قبل السوفييت ، كانت علاقة أتاتورك بالشيوعية من 1920 الى 1922 سياسة التحالف الخارجي و الاحتواء الداخلي و منع أي نفوذ متنامي للشيوعية بالبلاد.

تركيا الجمهورية و روسيا:
كرئيس لجمهورية تركيا كان كمال أتاتورك يمرر مبدأ سلام بالوطن و سلام بالعالم و وازن بين سياسات الحكم تجاه القوى العظمى الغربية و السوفييت في سياسة أقرب لعدم الإنحياز لاحقاً بالخمسينيات ، كان كمال أتاتورك تجاه السوفييت يرتكز على نقطتين الأولى حقيقة كون السوفييت جيران واجب التواصل الايجابي معهم فتمت عملية إبرام إتفاقيات تجارية و سياسية و توثيق للعلاقات الرسمية و حرص على السلم بين البلدين ، النقطة الأخرى إيمان كمال اتاتورك سياسياً بأن السوفييت العامل الكثر خطورة على امن تركيا بحكم كونها محتلة لأراضي الأتراك بوسط آسيا و ذات عقيدة أيدولوجية أممية لا ترتبط بالأديان و الأعراق مما يسهل وصولها و كانت تجربة بلاشفة أذربيجان حاسمة لديه في تبيان “خطر النفوذ الشيوعي”و بإعادة النظر لرؤية الطرفين للعلاقات الثنائية نجد أن الطرف السوفييتي لم يبدأ بالنظر للطرف التركي بموقف العداء إلا مع عام 1930 حينما إزدادت عمليات التوثيق في العلاقات مع أوروبا أكثر فأكثر و لأسباب أمنية بالدرجة الأولى كان جهاز الأمن الروسي يتعامل مع الأمر من زاوية أمنية بحتة مع بقاء العلاقات كما هي ، لكن عملياً توترت العلاقات مع إتفاقية مونترو 1936 التي منحت كامل السيطرة على المضائق للحكومة التركية مع حرية تحكم كاملة مما جعل السوفييت يعتبرون الأمر خرق لأمنهم الخاص بمرور السفن السوفيتية عبر المضائق و إستمر التوتر إلى عام 1938 وقت وفاة أتاتورك ، يمكننا القول ان العلاقات بعهد اتاتورك ظلت ودية و سلمية طيلة عهد اتاتورك مع حساسيات شديدة لدى كل طرف تظل امنية بالدرجة الأولى فالطرف التركي يقمع بشدة التيارات الشيوعية و كان الشاعر ناظم حكمت ذو الميول الشيوعية مثال حيث تم إعتقاله لعدة سنوات مع انه صديق لأتاتورك و مؤيد لأتاتورك منذ حرب الاستقلال التركية ، لذا كانت العلاقات سلمية مع توتر ظاهر بعام 1936 بناء على إستعادة تركيا كامل سيطرتها على المضائق لا أكثر.

تركيا ما بعد اتاتورك و السوفييت:
كان هناك إنقلاب كامل في المسار مع السوفييت متوازياً مع إنتهاء سياسية (سلام في العالم و سلام بالوطن) ، كانت البداية بالحرب العالمية الثانية حينما تم إنشاء أو الاتفاق على إنشاء قاعدة عسكرية لكن لم تنئأ إلا بعد الحرب تابعة للولايات المتحدة الامريكية في خرق لأهم قاعدة تركية وضعها أتاتورك بحظر الاحلاف العسكرية التي تجعل تركيا عضو في حرب او مواجهة عسكرية و لو إعتبرنا الأمر إستثناء لظروف الحرب فالقاعدة ظهرت بعد الحرب بل و إنضم الجيش التركي للناتو في كسر ثاني للقواعد الأتاتوركية و كانت النتيجة تواجد عسكري غربي بتركيا مثل تهديد شامل للإتحاد السوفيتي نقل تركيا من درجة الصديق المحايد للعدو ، بخلاف المسألة العسكرية كانت تركيا محل تجربة (جغلاديو الايطالية) أو عملية أمريكا لمكافحة الشيوعية بعد الحرب العالمية الثانية تحت شعار “مكافحة العصابات” و ضمن “مبدأ ترومان” الشهير بالتدخل ضد النفوذ الشيوعي بتركيا و اليونان ثم ضمن “مبدأ أيزنهاور ” بالخمسينيات لمكافحة المد الشيوعي بالشرق و إلى سقوط الاتحاد السوفيتي ظلت تركيا مقر عسكري و مخابراتي لمكافحة الشيوعية و عضو بحلف غربي عسكري و سياسي جعلها عدو للسوفييت في كسر صارخ لكل قواعد السياسة الخارجية و العسكرية لتاتورك و كان هذا دافع امريكا لتأييد الانقلابات العسكرية المتتالية بتركيا بحكم كون الجيش الممسك بمكافحة الشيوعية و المناهض الاكبر للسوفييت و طبعاً مع إنتهاء الحرب الباردة تلاشى دعم الجيش تماماً أمريكياً و بدأ عهد كسر القوميين بالجيش تحت قيادة إردوغان بدعم امريكي ، الخلاصة أن تركيا إينونو لتركيا إردوغان تحولت 100% عن سياسة السلام و الجوار الاتاتوركية لحلف عسكري و سياسي نقلها لمرتبة العدو الصارخ للسوفييت.
..
كانت العلاقة العثمانية الروسية علاقة عداء تحولت لعلاقة ود و تحالف بين 1920-1922 بعهد اتاتورك كقائد لحرب الاستقلال ثم علاقة سلمية طيلة فترة حكمه إختلطت بمحاذير و توترات امنية من الطرفين و توتر سياسي بنهاية حكم اتاتورك ثم مع خلفاؤه تحولت تركيا لعدو كامل للسوفييت بناء على سياسات عدائية تركية مخالفة لكل رؤى كمال اتاتورك السياسية و العسكرية.