يعتبر المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية من المحطات التاريخية في مسار هذا الحزب الذي أسس رسميا يوم 6 شتنبر 1959 تحت شعار “لاحزبية بعد اليوم”، وهو الشعار الذي كان يخدم خاصة حسابات القيادة النقابية الإصلاحية، وتصوراتها لطبيعة العلاقة بين النقابي، والسياسي. ومن هنا بدأت واقعة الثنائية التي طبعت تنظيميا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مما سيؤدي إلى وجود التباس فيما يخص مسيرة الاتحاد الوطني السياسية، وآليات اشتغاله التنظيمية. وعليه كان المؤتمر فرصة لطرح سؤال جوهري حول كيفية مواجهة هذه الوضعية التنظيمية غير السليمة .
بالإضافة إلى التحدي التنظيمي كان المؤتمر الثاني فرصة لطرح التحدي الايديولوجي، فقد حدد ميثاق المؤتمر التأسيسي للحزب مبادئ، وأهداف الحركة الاتحادية في التقدم الاجتماعي، والديمقراطية الشعبية، والانحياز إلى صف قوى التقدم والتحرر العالمية. لكن هذه الوثائق لم تساهم في إبراز نظرية مذهبية للحزب بالرغم من أن المرجعية الاشتراكية كانت كامنة، وموجودة صراحة في كتابات وتصريحات بعض القادة الاتحاديين. لذا كان سؤال الهوية: من هم الاتحاديون؟ مطروحا بقوة، وسيبرز من خلال وثيقتي: الاختيار الثوري للمهدي بن بركة، والتقرير المذهبي لعبد الله إبراهيم.
أما التحدي السياسي فقد ارتبط بالسياق السياسي العام الذي عقد فيه المؤتمر، والذي تميز ببداية المواجهة بين الاتحاد الوطني، والنظام السياسي. حيث تم اعتقال الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي في 15 دجنبر 1959 بتهمة نشر مقال في جريدة التحرير يمس بالملكية، وشخص الملك، وتم اعتقال المقاومين وأعضاء جيش التحرير في فبراير 1960 بتهمة التخطيط لمؤامرة لاغتيال ولي العهد الأمير الحسن، وإسقاط حكومة عبد الله إبراهيم في 20 ماي 1960، وبداية بوادر شخصنة السلطة السياسية في المغرب، واتجاهها نحو الحكم الفردي، وهكذا كان المؤتمر فرصة لطرح السؤال التالي: ما هو منطق الرد الصحيح للاتحاد الوطني للقوات الشعبية لمواجهة تهديدات النظام، والنزعة الكامنة للاتجاه نحو إنشاء نظام الحكم الفردي؟.
لذا سيجد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية نفسه خلال المؤتمر الثاني أمام فرصة تاريخية لطرح هذه التحديات الثلاث للنقاش الحزبي الداخلي، والحسم فيه خاصة أن المغرب سيدخل بعد 1962 في فترة اختبار القوة بين المعارضة الاتحادية ونظام الحكم، وستظهر بشكل جلي الخلافات العميقة، والصراعات بين الجناح السياسي، والجناح النقابي بعد المؤتمر. بدأ النقاش داخل حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية حول العلاقة بين العمل النقابي، والسياسي داخل الحزب مع بداية يناير 1962 خاصة بعد أن شرع العديد من المناضلين، وعلى رأسهم عمر بن جلون في تأسيس خلايا عمالية، وحزبية مما جعل أعضاء الجهاز النقابي يطالبون في يناير 1962 بقية أعضاء الكتابة العامة للحزب بإقصاء المناضلين الذين لا يحترمون الاستقلال النقابي، وهكذا أصبح النقاش داخل الحزب متمحورا حول احترام استقلالية العمل النقابي، وهو الطرح الذي دافع عنه الجناح النقابي. وانتهى هذا النقاش داخل الكتابة العامة إلى قرار بعقد المؤتمر الثاني قصد تحديد خطة عمل يلتزم بها الجميع على أساس:
• “ألا يمسك المناضلون عن عملهم التنظيمي الذي يعتبر معاديا للجهاز النقابي.
• أن تتكون لضمان ذلك كتابات إقليمية ثنائية يعين نصف أفرادها الإتحاد المغربي للشغل”.
هكذا كان مستوى النقاش السياسي داخل الإتحاد الوطني للقوات الشعبية استعدادا للمؤتمر الثاني. لكن قبل انعقاد هذا المؤتمر عاد يوم الأحد 15 ماي 1962 المهدي بن بركة إلى المغرب الذي سبق له أن غادره في 21 يناير 1960 بعد تطور الأوضاع السياسية الداخلية بالمغرب، ومع اقتراب موعد انعقاد المؤتمر الوطني الثاني للحزب أعرب المهدي لأعضاء الكتابة العامة عن رغبته في المشاركة في المؤتمر، وبالتالي العودة إلى المغرب.
أعلنت الكتابة العامة قرارا بعقد المؤتمر أيام 25-26-27 ماي 1962، وفي صباح الجمعة 25 ماي بدأت أشغال المؤتمر برئاسة المحجوب بن الصديق الذي تم انتخابه رئيسا له، وعقد المؤتمر تحت مجموعة من الشعارات تبرز مستوى الخطاب السياسي للإتحاد الوطني للقوات الشعبية، والخطوط العريضة لتصوراته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والقومية، وأبرزها: “المغرب وطن واحد / 60٪ من الفلاحين لا يملكون شبرا من الأرض / بقاء الحدود داخل المغرب العربي يؤدي إلى الاستعمار الجديد / لا تصميم ولا صناعة ثقيلة بدون إصلاح فلاحي ومراقبة شعبية / رأسمالنا تعبئة الجماهير والإصلاح الفلاحي / لا يمكن فصل معركة الوحدة العربية عن آفاقها الثورية وأسسها التقدمية / الجماهير الفلاحية لا تقبل معمرين مغاربة محل المعمرين الأجانب / نحن جزء من الحركة الثورية للجماهير في العالم ضد الاستعمار والتخلف”.
افتتحت أعمال المؤتمر تحت الرئاسة الشرفية لشيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، وقد جلس في منصة الافتتاح كل من عبد الله إبراهيم، والفقيه محمد البصري، والمحجوب بن الصديق، وعبد الرحمان اليوسفي، والمهدي بن بركة، وعبد الرحيم بوعبيد، والتهامي عمار، ومحمد منصور، والمعطي بوعبيد، ويتوسطهم بلعربي العلوي الذي ألقى كلمة عبر فيها على: “أن المؤتمر ناجح لا محالة ما دام رائده هو الحق والعدل و الصدق والإخلاص”، وتحدث بلعربي العلوي عن مبدأ الحرية، والمساواة في الإسلام حيث قال: “إن سيدنا هو خالقنا ولا عبودية علينا لأي مخلوق كيفما كان”. وبعد ذلك استفاض محمد بلعربي العلوي في الحديث عن الإتحاد كمنظمة شعبية جماهيرية، وعن معنى الإتحاد، والصفات التي يجب أن يتحلى بها الاتحادي الحقيقي، وختم خطابه بشكر المؤتمرين، والدعاء لهم بالنجاح، والتوفيق. بعد ذلك أخذ الكلمة المحجوب بن الصديق الذي ترأس الجلسة الافتتاحية رسميا باقتراح من عبد الرحيم بوعبيد، حيث ألقى بن الصديق خطابا افتتاحيا، وبعده تناول الكلمة محمد منصور رئيس جامعة الغرفة التجارية والصناعية بالدار البيضاء، ورئيس الغرفة التجارية والصناعية في نفس المدينة، ثم وافق المؤتمرون على ترتيب جدول الأعمال الذي جاء كالتالي :
• تلاوة التقرير المذهبي.
• تعيين لجنة فحص بطاقات العضوية.
• مناقشة التقرير المذهبي الذي سيلقيه عبد الله إبراهيم.
كما وافق المؤتمر على تركيبة لجنة فحص البطاقات التي تكونت من : التهامي عمار، ومولاي المهدي العلوي، والمعطي بوعبيد، وعبد القادر أواب.
تابع المؤتمر جلساته العلنية حيث قدم عبد الله إبراهيم التقرير المذهبي، وشكل هذا التقرير الذي كتبه عبد الله إبراهيم محور نقاش داخل القواعد الحزبية الاتحادية، ذلك أنه جاء بديلا للتقرير الذي كتبه المهدي بن بركة، وهو عبارة عن تقرير نقدي لتجربة الاتحاد الوطني ككل السياسية، والتنظيمية، وبعثه للكتابة العامة كمساهمة منه في توضيح الرؤية في المسائل الأساسية التي يجب أن يخرج المؤتمر بشأنها بقرارات واضحة، وخاصة: مسألة التنظيم، والخط السياسي المرحلي، والأفق الثوري. لكن الكتابة العامة التي كانت تعيش الأزمة بين الجناح السياسي، والنقابي قررت بضغط من هذا الأخير حجب هذا التقرير لأنه يتناول بصراحة ما كان مسكوتا عنه، وبالأخص تحديد الخط السياسي المرحلي، والأفق الثوري للإتحاد الوطني من جهة، والفصل في المشاكل التنظيمية المزمنة، وفي مقدمتها مشكلة العلاقة بين الحزب والنقابة من جهة أخرى، والتي عبر عنها المهدي بن بركة في تقريره قائلا: “أما نشاطات الحزب كمنظمة سياسية وسط العمال وفي المؤسسات فإنها بالغة الأهمية، لأنها هي الضمان لامتزاج النضال السياسي بالنضال النقابي، وفي هذا السبيل يجب علينا ألا نغفل أي عامل من العوامل التي يمكنها أن تؤثر على تحقيق هذا الامتزاج، سواء العوامل المتعلقة بضعف التكوين الإيديولوجي وسوء تقدير الظروف الراهنة، أو العوامل الداخلية المتعلقة بالبطالة ووسائل الضغط والإفساد التي يملكها النظام وحتى المتصلة بالتركيب النقابي نفسه. علينا أن نحلل سائر هذه العوامل حتى نسلط كل الأضواء على المشاكل التي تحدث في العلاقات الدقيقة بين النقابات المهنية والحركات الثورية. يجب أن يكون واضحا في الأذهان أهمية النضال النقابي، وكذلك ضيق أفقه إذا هو لم ينفتح على المطالب السياسية والأهداف الثورية. يجب أن نظل يقظين أمام سياسة النظام القائم في الميدان النقابي لأنها تدخل في نطاق أوسع هو خطة الاستعمار الجديد على مستوى القارة الإفريقية وغرضها تشجيع التيارات الإصلاحية اللاسياسية في الأوساط النقابية العمالية وفصل النضال السياسي القومي عن المعركة الاقتصادية المحدودة الإطار .
وتلك ظاهرة يجب أن نعيها وندركها بكل اهتمام بالنسبة لنا وبالنسبة لمجموع القارة الإفريقية. يجب أن نضع في إطارها السليم مشاكل الارتباط المتين بين المهام النقابية الخاصة وبين مسؤوليات حركة التحرير الوطني التي تجند سائر فئات المجتمع وإلا إذا نحن أهملنا وضع هذه المشاكل وضعا سليما وعجزنا عن مواجهتها بكل شجاعة وبدون تعصب فإن القوى الثورية المفضلة التي هي الطبقة العاملة سوف تصبح معرضة للانصراف ولو إلى حين عن مهمتها الطبيعية. ينتج من هذه الملاحظة أن خطتنا فيما يرجع لعلاقات الحزب بالمنظمات الجماهيرية خطة منظمة واضحة بحكم دور الحزب كمحرك ودور كل منظمة حسب نوعيتها وضمن حدود استقلالها الذاتي”.
كان التقرير الذي كتبه المهدي بن بركة المعنون “بالنقد الذاتي”، والذي نشره في يوليوز 1965 تحت عنوان “الاختيار الثوري” أكثر عمقا، وتركيزا على بناء الحزب، وحلل بشكل عميق وضعية المغرب السياسية منذ 1956. فمن جهة يطرح التقرير للمراجعة، والنقد تجربة الاتحاد الوطني الذي كان قد مر على تأسيسه سنتان ونصف، ومن جهة أخرى يحدد الأفق الثوري الذي ينشده الاتحاد كجملة أهداف يعمل على تحقيقها في المدى البعيد. وبين النقد الذاتي للتجربة الماضية، والأفق الثوري الذي يرتسم فيه المستقبل البعيد يطرح التقرير المهام الذي تنتظر الاتحاد في العاجل والآجل.
ففي القسم الأول يتعرض بن بركة إلى الظروف الخارجية ثم إلى التناقضات الاجتماعية.أما القسم الثاني فخصصه للنقد الذاتي والأخطاء القاتلة، ولخصها في ثلاثة أخطاء :
1. سوء التقدير لأنصاف الحلول، وركز بالضبط على قبول الحركة الوطنية لحل إيكس ليبان.
2. الإطار المغلق الذي مرت فيه بعض معارك الحزب بمعزل عن مشاركة الجماهير، وحددها زمنيا في الفترة ما بين 1956-1960، حيث كانت هذه المعارك في إطار تعاقب الحكومات من الوزارتين الائتلافيتين الأولى، والثانية لامبارك البكاي إلى حكومتي أحمد بلافريج وعبد الله إبراهيم، وكانت المعارك أيضا في الميدان الاقتصادي، وكلها دارت داخل اللجنة التنفيذية والسياسية لحزب الاستقلال .
3. من نحن؟ : وهو السؤال الذي يعكس عدم الوضوح الإيديولوجي، وعدم تحديد هوية الحركة الاتحادية.
والقسم الثالث تمحور حول المهام التي تنتظرنا، وتناول فيه بن بركة نقطتان: مشاكل الديمقراطية، ومهامنا ضد الاستعمار. وفي القسم الرابع ركز على الأفق الثوري من خلال مضمون الاشتراكية العلمية التي وضحها المهدي بن بركة في القسم الثالث من التقرير قائلا: “إن مضمون الاشتراكية العلمية عندنا يقتضي:
• حلا صحيحا لمشكلة الحكم بإقامة مؤسسات سياسية تمكن الجماهير الشعبية من رقابة ديمقراطية على أجهزة الدولة، وعلى توزيع ثرواتها، وإنتاجها القومي.
• أسس اقتصادية لا تترك أي مظهر من مظاهر سيطرة الاستعمار، ولا لسيطرة حليفيه الإقطاع، والبرجوازية الكبرى الطفيلية.
• تنظيما سياسيا واجتماعيا للسهر على تأطير الجماهير الشعبية وتربيتها من أجل التعبئة الشاملة لسائر الموارد القومية الضرورية لتراكم وسائل الاستثمار” .
ثم ربط التقرير بين الأفق الثوري، والمهام العاجلة من خلال الأداة وهي: الحزب ومشكلة الإطارات، والحزب والأمة. ويظهر من القراءة العميقة للاختيار الثوري أن بن بركة كان واعيا بغياب خمس قضايا:
1. النقد الذاتي.
2. الوضوح السياسي والأيديولوجي، ولأول مرة يطرح في أدبيات الحزب مفهوم الاشتراكية العلمية بشكل علني.
3. الديمقراطية.
4. الأداة الحزبية، وهي أيضا المرة الأولى التي تطرح فيها قضايا التنظيم والربط بينها، وبين الأهداف المسطرة.
5. قضية التحرر من بقايا، وتبعات الاستعمار.
في نهاية التقرير قدم المهدي خلاصة تتضمن الهم التنظيمي والسياسي والأيديولوجي، ورغم أهمية وضرورة هذا التقرير خلال فترة المؤتمر الثاني فقد حجب من طرف الجناح النقابي، وبالتالي بقي كمشروع. وبعد اختطاف المهدي بن بركة تعرفت النخبة السياسية المغربية، وخاصة النخبة الحزبية الاتحادية على وثيقة الاختيار الثوري كتقرير سياسي، وتنظيمي مفصل بل أكثر من ذلك فقد عمد أعضاء من الحزب في الخارج إلى تشكيل تنظيم سياسي فيما بعد حمل اسم الاختيار الثوري.
تم تعويض تقرير المهدي بن بركة في المؤتمر بتقرير كتبه عبد الله إبراهيم، وعنونه باسم “التقرير المذهبي” ألقاه في اليوم الأول للمؤتمر. هذا التقرير يتكون من مقدمة تعكس النظرة اليائسة للوضع حيث ركز فيها عبد الله إبراهيم على أن هذا التقرير كان يجب أن يوضع بين أيدي المناضلين في سنوات 1953-1954-1955 لو كانت الظروف التي سبقت أو صاحبت هذه الحقبة من تاريخ المغرب تجعل تحريره بصفة موضوعية ممكنا وسط الجهاز السياسي البرجوازي الذي كان آنذاك أداة للتعبير عن الإرادة الوطنية بصفة رسمية. لينتقل بعدها إلى الحديث عن نتائج ما سماه بمراوغات الانتهازية البرجوازية وهي:
• “ملكية مطلقة من النوع القديم الذي سبق للمغرب أن عرفه قبل الحماية.
• جهاز إداري متعفن في سائر مرافقه .
• مساس بالمكاسب التي دفعت الجماهير ثمنها غاليا في ميدان الحقوق الديمقراطية والحريات النقابية.
• تصفية المنظمات الوطنية للمقاومة ماديا ومعنويا ومتابعة سياسة انتقامية حانقة ضد المناضلين الذين امتحنوا امتحانا في كفاحهم الطويل الشاق ضد الاستعمار.
• تبني قسم من البرجوازية الوطنية للامتيازات والمواقف والنظريات الاستعمارية في الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مما أدى من جهة إلى مزج تام في المصالح وإلى انسجام عميق في الرأي بين هذا القسم من البرجوازية الوطنية، وبين الاستعمار من جهة أخرى، وإبقاء الجماهير الشعبية في حالة من الفاقة والتقهقر والعجز.
• مواصلة السعي باستمرار، وبصفة صاخبة من جانب الرجعية الحاكمة قصد ابتذال الشعارات الثورية للجماهير، وإبلائها و خلق الالتباس والتردد في النفوس ورفع صفات الجبن والتملق والشلل الفكري إلى مرتبة الفضائل، كل ذلك من أجل استئصال روح النضال عند الجماهير المغربية وتأييد استغلالها واستعبادها” .
ينقسم هذا التقرير إلى ثلاثة أقسام :
• القسم الأول وضع له عنوان هو “الأهداف الأفقية: كيف نحدد لنضالنا أهدافا مطابقة لتيار التاريخ”، وركز بالخصوص على المغرب العربي حيث اعتبره التقرير وطنا واحدا، وطرح مجموعة من الأسئلة حاول التقرير الإجابة عنها، وأهمها : “ما هو الوضع المضبوط الذي ينبغي أن ننطلق منه لنرتفع إلى مستوى الأفاق الجديدة؟ وما هي وسائل تحقيق وحدة المغرب العربي؟ وما هي العراقيل الحقيقية أو المحتملة التي يجب التغلب عليها؟”.
• القسم الثاني عنونه التقرير ب “الأهداف الحالية”، وهو القسم الذي تم تخصيصه للمغرب، وانبنى على العناصر التالية:
“أولا : اقتصاد يقوم على استغلال وتسخير الجماهير الشعبية.
ثانيا : القوات الاجتماعية المتقابلة.
ثالثا : أسلوب في الحكم عتيق”.
• القسم الثالث: تمحور حول القواعد الأساسية للعمل، وتم التركيز فيه على الاختيارات الأساسية للحزب باعتباره حركة جماهيرية، وقد ركزت هذه الاختيارات بشكل خاص على الجانب الاقتصادي المتعلق بالتعبير عن الموقف ضد النظام الرأسمالي، والدعوة إلى الإصلاح الفلاحي، وضرورة وجود اقتصاد ينهض بالجماهير المغربية، وحكومة في خدمة الشعب، وسياسة خارجية في مستوى أهداف المغرب.
- الخاتمة: تعبر عن قناعات التقرير، وهي أن ما قدمه هذا الأخير هو ليس مجموعة عقائد بل أسلوبا في التفكير وتوجيها وآفاقا مستقبلية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ويصل عبد الله ابراهيم فيها إلى نقطة أساسية هي : “أنه لا سياسة جديدة ممكنة للتخطيط الاقتصادي، ولا الإصلاح الفلاحي من غير إصلاح سياسي”، و يضيف التقرير في الختام: “و في غضون تحليلاتنا فقد سبق أن أوضحنا إيضاحا تاما أن تحويل مجتمع متخلف يهيمن عليه الواقع الاستعماري مهما بلغ النزاع بين المصالح فيه، لا يتحقق نتيجة للصراع بين طبقاته الاجتماعية المتعارضة بل يكون ثمرة لنضال ذي طابع دولي بين الدول المتخلفة ودولة أو مجموعة من الدول الأجنبية، وهذا يظهر لنا بالضبط مقدار تضامن الأمة العربية كلها تقريبا. هذا التضامن الذي تقوم عليه في الوقت الراهن جميع حظوظ النجاح في معركتنا”. وتنتهي الخاتمة كذلك بدعوة المناضلين والعناصر الواعية في الشعب على اختلاف اتجاهاتها أن ترتفع الى مستوى المهام الضخمة التي تنوبها من الآن وذلك في انطلاق ثوري يفيض أخوة وتفاؤلا .
خلال النقاش الذي دار بين مؤتمري الحزب، وأشرفت عليه لجنة مناقشة التقرير المذهبي لوحظ بأن الكثير من المتدخلين أخذوا على التقرير طابعه العام، والأدبي وخلوه من أي تحليل سياسي أو إيديولوجي واضح، وركوبه على الألفاظ القوية. وفي الجلسة الصباحية لليوم الثاني للمؤتمر أسندت رئاسته لعبد الرحمن اليوسفي حيث تولى عبد الرحيم بوعبيد تقديم تقرير النشاط الحزبي أو التقرير السياسي الذي أعده كل من اليوسفي ومحمد عابد الجابري، وقد اعتبر الكثيرون هذا التقرير بمثابة بديل للتقرير المذهبي لأنه تناول بصراحة ووضوح قضية الديمقراطية، والطابع المطلق للحكم في المغرب، وقضية الاشتراكية، وقد تكونت لجنة لمناقشة التقرير السياسي وسميت باللجنة الثانية. أما الجلسة المسائية لليوم الثاني للمؤتمر ترأسها محمد البصري والتي خصصت للاستماع إلى تقارير اللجان، فقدم المهدي بن بركة نتائج أعمال اللجنة الثالثة التي كلفت بمناقشة التقرير التنظيمي كما عرض عبد الرحيم بوعبيد نتائج مناقشات اللجنة الثانية، بينما تقدم المحجوب بن الصديق بنتائج مناقشات اللجنة الأولى التي أنيطت بها مهمة مناقشة التقرير المذهبي، ثم قدم المهدي بن بركة لائحة أعضاء الهيئات الحزبية المسؤولة التي جاءت مناصفة بين الجهاز النقابي، والمناضلين الاتحاديين، وقد ضمت الكتابة العامة الأسماء التالية: محمد البصري، وعبد الله إبراهيم، والمهدي بن بركة، وعبد الرحيم بوعبيد، والمحجوب بن الصديق، وعبد الرحمان اليوسفي، والمعطي بوعبيد، والتهامي عمار، ومحمد عبد الرزاق، ومحمد منصور. أما باقي الأجهزة الحزبية الأخرى : اللجنة الإدارية الوطنية، واللجنة المركزية، والمجلس الوطني فقد عين أعضاؤها أيضا مناصفة بين الجناح النقابي والجناح السياسي.

توصل المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى قرارين أساسيين:
• القرار المذهبي:
“إن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ينبذ الاختيار الرأسمالي المعاكس لمصالح الجماهير الشعبية، والعاجز عن إخراج البلاد من التبعية والتخلف. وأن تطور المغرب في نطاق النظام الرأسمالي سيؤدي إلى بقاء القطاع الرأسمالي الاستعماري مزدهرا في دائرة مغلقة لا يسمح بالنمو إلا للبورجوازية التجارية الكبرى بصفتها خادمة الاحتكارات الأجنبية، ويؤكد أن اشتراكية وسائل الإنتاج هي وحدها التي تسمح بالتحرر من التبعية، ومن التخلف بتحقيق تصميم حقيقي للاقتصاد، وتطبيق إصلاح زراعي جذري، وبناء مجتمع عادل مزدهر متخلص من كل أنواع الاستغلال.
يعلن أن هذا الاختيار الاشتراكي يستوجب إلزاما:
أولا : إصلاح زراعي على أساس المبادئ الآتية :
أ- الأرض لمن يحرثها.
ب- الأرض تراث وطني لا يمكن أن يستغلها إلا الفلاحون المغاربة.
ج- يجب أن يكون الإنتاج الفلاحي مندمجا في سياسة زراعية موجهة قبل كل شيء نحو تلبية الحاجات وهو كذلك يهم المجتمع بأسره…
ثانيا : سياسة اقتصادية تتضمن :
أ‌- تحويلا جذريا لهياكل الاقتصاد الوطني بتنسيق منطقي، وبإدماج مختلف النشاطات القطاعية طبقا لمقاييس، وآفاق تصميم الاقتصاد لصالح الشعب.
ب‌- تحقيق سياسة تخطيطية للتصنيع تضع في المقام الأول إقامة صناعة ثقيلة في نظام اشتراكي تكون قادرة على الإسهام بفعالية في التجهيز الذاتي السريع للبلاد.
ج- الاعتماد على الرأسمال البشري، وتوظيفه من أجل تحويل الهياكل الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية.
د- المغرب العربي والتعاون الدولي”.

• القرار السياسي:
“بعد أن استعرض المؤتمر الوطني الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية للوضع الذي توجد عليه البلاد في الظروف الراهنة، ونتائج السنوات الأولى وخاصة تجربة الحكم الملكي في السنتين الأخيرتين وتتجلى هذه النتائج في:
• حكم مشخص تشخيصا فرديا من نوع مطلق قديم.
• جهاز إداري متعفن تسوده اللامسؤولية والامتيازات والمحسوبية.
• مساس بالمكاسب التي دفعت الجماهير ثمنها غاليا في ميدان الحقوق الديمقراطية، والحريات النقابية…
• وحيث أن المغرب بفضل منظماته الحية الشعبية، ويقظة جماهيره، ونضجه يقاوم اليوم بتصميم كل انزلاق نحو الحكم الاستبدادي، وهو يتوفر على طاقات تشكل القاعدة الأصلية لتطور ديمقراطي.
وحيث ان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ما فتئ يعبر عن سخط الجماهير الشعبية على هذه الأوضاع الفاسدة، وينذر بسوء عواقب السياسة المرتجلة المتجاهلة للإرادة الشعبية، ويعرض الحلول الناجعة التي تضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل اعتبار مثلما فعل في مذكرته المؤرخة في 14 مارس 1961:
1. يؤكد المؤتمر العام أن نظام الحكم بالمغرب في الظروف الراهنة لا يخرج أساسا عن أحد أمرين : إما أن يكون شعبيا تقدميا، وإما أن يكون على العكس مبنيا على القوة مدعما من قبل الاستعمار الجديد، ومستمدا نفوذه من الخارج.
2. يفضح المؤامرة المتبعة ضد الشعب المغربي في تحضير دستور يصنع في الخفاء، وبتواطؤ مع الاجانب.
3. يعلن أنه لا سبيل للخروج من المأزق الذي زج فيه المغرب الحكم الملكي المطلق إلا بإقامة حكومة تتمتع بثقة الجماهير الشعبية تسهر على تنظيم انتخابات حرة لمجلس تأسيسي يضع الدستور الذي ينظم الحكم، ويلبي مصالح الشعب في الديمقراطية الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية.
4. يترك لأجهزة الإتحاد المختصة لكي تعمل على تحقيق هذا الهدف المستعجل بالوسائل التي تراها مناسبة.
5. يعتبر أن نجاح خطة الاتحاد السياسية، وتحقيق الأهداف التي يرسمها التقرير المذهبي متوقف على إحكام تنظيم الإتحاد الوطني، وتعبئة سائر المنظمات الجماهيرية العمالية، والفلاحية، والمهنية، والطلابية، والنسائية، والمحافظة على وحدتها، ويقظتها، وعلى رفع وعيها إلى مستوى المسؤوليات التي يواجهها في الداخل والخارج .
6. يوجه النداء إلى سائر المواطنين، والمواطنات لكي يتجندوا في انطلاق ثوري يفيض أخوة وتفاؤلا من أجل بناء مغرب متحرر تقدمي رفيع يحترم المثل الإنسانية والسلام”.
إجمالا يمكن القول إن المؤتمر كان ناجحا إذا نظرنا إليه من الخارج خصوصا، وقد حضرته وفود أجنبية، وعربية ذات وزن. أما إذا نظرنا إليه على ضوء المشاكل التنظيمية، والقرارات التي كان يجب اتخاذها في تلك الظرفية السياسية فقد كان بعيدا جدا عن تحقيق أهدافه، خاصة أن القرارات التي خرج بها المؤتمر لم تكن تتجاوز القرارات السابقة. ومن جهة أخرى كان المؤتمر مناسبة تفاقم فيها الصراع بين الجناح السياسي، والجهاز النقابي فظهر للعلن وبقوة مدى ثقل وحضور هذا الجهاز داخل الحزب، وأبانت عدة قضايا داخلية، وخارجية مدى تناقض الرؤى بين الجناحين، ويبرز ذلك عبر مقارنة بسيطة بين التقرير المذهبي الذي كتبه عبد الله إبراهيم، والاختيار الثوري الذي كتبه المهدي بن بركة.