“صاحب الكرامة المزعومة واللعنة الدائمة مولانا أبو القمصان”
كان مجرد ذكر اسمه كفيلا بسريان الفزع في أوصال الصغار، وإثارة تبرم وغضب مكتوم لدى الكبار. فما أن يذكر الاسم . أو يرد على الخاطر، حتى يفكر كل شخص عن وسيلة للخلاص من لقاء محتمل معه.
الصغار للهرب من أذى جسدي كبير قد يلحق بهم، والكبار هربا من إهانة تكاد تكون مؤكدة إن أوقعتهم الأقدار في طريقه ..من سوء طالع أهل البلد أن مثل هذا اللقاء، غير المرغوب يكاد يكون حتميا، إن لم يكن اليوم فغدا. فالشبح المذكور يختار مناطق تواجده بعناية فائقة كمن يعد لكمين محكم لأي ضحية محتملة. قلما يراه أحد في شوارع البلدة الداخلية أو حاراتها الترابية الضيقة، ولا حتى في السوق الكبير الذي يضم الجميع في يوم محدد من الأسبوع.
يرتدي عدة أثواب من القماش الرخيص ضيقة الأكمام وقصيرة مما يطلق عليه أهل الصعيد القميص، يراكم بعضها فوق بعض ويرتدي فوق كل ذلك جلبابا صعيديا فضفاضا وطويلا واسع الأكمام وبفتحة واسعة على الصدر، تأخذ شكل الرقم سبعة، وتنتهي بشكل نصف دائري فوق الأكتاف وحول الرقبة. لا يغير ملابسه بتبدل المواسم ، حاسر الرأس صيفا، ويغطيها بغطاء صوفي ثقيل شتاءً.
لا أحد يعرف اسمه بشكل مؤكد، البعض يقول إن اسمه الأول أحمد، ولكن الكل يعرفه باسم واحد هو “أبو القمصان” ، نسبة لطريقة لباسه العجيبة. آخرون ممن يحاولون اتقاء شره ينادونه الشيخ أبو القمصان، ويذهب البعض لتفخيمه بلقب “مولانا أبو القمصان”.
ثوبه العلوي ملطخ على الدوام ببقع دهنية داكنة مصدرها معروف للكافة. إنها الدهون المتساقطة من قطع اللحم السمين الذي يقبل عليه أبوالقمصان بشراهة معروفة في المآتم والموالد، وما أكثرها . يحضر كل مأتم في البلدة وكأنه واحد من أهل اي فقيد، ينتظر لحظات وصول الطعام الساخن الذي كان من عادات أهل البلدة إعداده . فقد كان كل بيت من أقارب الفقيد أو معارفه أو جيرانه أو حتى دونما صلة محددة يجهز صينية نحاسية كبيرة يرص عليها عشرات من أطباق الطعام ، وكان أكبرها طبق ضخم من الفتة ليقدم لمن يحضرون العزاء. يستمر الأمر هكذا سبعة أيام متواصلة لحين انتهاء العزاء.
يأكل أبو القصمان ويشرب مرة تلو الأخرى الشاي الذي يقدم للحاضرين بانتظام على مدار اليوم، ويأخذ سجائر ممن يروق له من الحاضرين. وداعة أبو القمصان كانت لحظية تماما وتنتهي بانقضاء حاجته من الطعام والشراب، ولا تنتمي بأي صلة لشراسته ضد خلق الله بعيدا عن تلك المناسبات. جيوب الجلباب الكبيرة والواسعة ممتلئة على الدوام بحصى صغير الحجم ولكنه قاس وبعضه له حواف مدببة. يتحرك باستمرار في عرينه المعتاد، وكمينه المفضل في أول شارع المحطة.
يتمركز في المنطقة الواقعة مابين نقطة الشرطة ومحطة الحافلات. الشارع هو الأكثر حيوية في البلدة، بل هو شريانها، يقصده المسافرون للوصول لمحطة القطارات، الواقعة في نهاية الطرف الغربي منه ، ومن يقصد محطة الأتوبيس لسفرة قريبة لعاصمة المحافظة أو بعيدة ، غالبا لمدن البحر الأحمر ومحافظات القناة، التي يعمل ويعيش بها عدد كبير من أبناء البلدة. وبه يمر أيضا أبناء القرى والنجوع المجاورة ممن يزورون البلدة قاصدين محطة حافلات النقل الجماعي ’ وفيه يمر المزارعون في طريقهم لحقولهم الممتدة الى الغرب والجنوب والشمال. وفيه تقع عدة مدارس ونقطة الشرطة ومصالح حكومية أخرى. لا مفر.. لا يوجد أي طريق آخر. تقع البلد في نهاية شارع المحطة شرقا بعد الطريق السريع الواصل من القاهرة لأسوان. وتحدها من جهة الغرب ثلاث ترع متوازية يقطع كل منها كوبري ، أو كما يسميها الجميع في البلدة “القنطرة”.
الكل يمر ويده على قلبه من نوبة هجوم مفاجىء بالحصى والطوب من أبو القمصان، كان هذا أكثر ما يخشاه الصغار. أما الكبار فخوفهم مضاعف، فهم مثل الصغار يخشون انهمار الطوب على رؤوسهم، ويخشون سباب وهياج أبو القمصان ولعنات لسانه السليط. الأدهى أنه كان يعرف أسرار الكثيرين من أهل البلد، فيصيح بها كمكبر صوت مفتوح على أعلاه في الشارع مسببا خجلا وخزيا لكثير من الضحايا. في نوبات أشد من هياج أبو القمصان كان لا يتردد في أن يمسك برقبة أي من المارين ويضغطها بعصبية وصياح عال بينما يسيل لعاب كثير كالزبد من فمه. لم يفكر أحد في التصدي لأبو القمصان أو إيقافه أو الشكوى منه، حتى عساكر نقطة الشرطة المجاورة ، لم يجرؤ أحد على ذلك قط.
كان أقصى ما يستطيعه الناس تخليص أي ضحية قد يمسك بها بين يديه، ومحاولة تهدئته واسترضائه . أسرع طرق الاسترضاء كانت زجاجة مشروب غازي من أقرب محل بقالة مجاور. كان الأمر محيرا خاصة لجيل صغار السن ممن لا يعرفون أن “أبوالقمصان” من أصحاب “الكرامات”!
يروي العجائز للصغار أن أبو القمصان “ولي صالح”، والأهم أنه وطني , وقدم خدمة جليلة لبلاده . فالكرامة الأكبر لأبوالقمصان، والتي تناقلتها الأجيال، أنه في سنوات حرب الاستنزاف بعد نكسة يونيو، تمكن من ضبط جاسوسين إسرائيليين.
يُروى أنه كان في ذروة حالة هيام داخل إحدى حلقات الذكر “وهي حلقات من الإنشاد الصوفي” الشائعة في الجنوب، عندما أمسك فجأة بشخصين وأخذ يصيح بشكل هستيري رافضا أن يترك أيا منهما رغم توسلات الحضور. بقى أبو القمصان ممسكا بالرجلين، وتعقد الأمر، إلى أن جاء رجال أمن أخذوا الرجلين، وواصل أبو القمصان هيامه كأن شيئا لم يكن. أثبتت التحقيقات معهما – على عهدة الرواة- أنهما جاسوسان. لم يكن أبو القمصان مزودا بأي من أجهزة الكشف أو التجسس، الأمر بمنتهى البساطة، أنه استشعر أن الرجلين غريبان من رائحتهما. فرائحتهما كانت “زنخة” باللهجة الدارجة في الجنوب، وكان هذا الشائع عن صفات العدو وقتئذ، شاع الأمر وصار أبو القمصان بطلا، بل إن الزعيم فكر بنفسه في مقابلته وتكريمه، لكن ظروفا غير معروفة حالت دون ذلك. بقيت كرامة أبو القمصان مجدا دائما له، ولعنة مقيمة قد تحل في أي لحظة على أي من سكان البلدة، يقبلونها جبرا أو عن طيب خاطر من أجل خدمته الوطنية الجليلة، حتى بعد أن صار العدو جارا، بقى أبو القصمان كما هو متوجا بمجده المزعوم!
تعليق واحد على وجوه (4): أبو القمصان
أعرف عن حلقات الذكر الصوفية المنتشرة في الجنوب, لكني لم أكن أعرف عن “أبو القمصان”! … وهل يفرز الواقع إلا ما هو الأب الشرعي لأغرب الخيالات والشخصيات الروائية مدهشة التكوين؟!
سلسلة شائقة يا محمد والكتابة رشيقة الكلمات ومتسارعة الوتيرة وتدور في كل مرة حول وجه بعينه ترسمه وتحدد ملامحه حتى لكأن القارئ بنهاية المقالة يعرف الشخصية التي تناولتها معرفة من التقاها وعايشها! تحياتي