في بحر الإسكندرية .. قررت أنا وعدد من الرفاق أن نخوض سباقا مجنونا .. نتبارى فيه لنرى أينا أشد مقدرة على السباحة .. فبعد أن عدنا فى مساء ذلك اليوم .. وبعد يوم طويل وشاق من العمل .. كان السباق أن نبدأ بالدوران من حول تلك الصخور التي يسميها الناس ” المصدات ” وذلك من ناحية البحر والشاطئ الأبعد ..
بدأ السباق .. وسريعا تجاوزت رفقائي الثلاثة .. لكن المسافة كانت جد طويلة .. والأمواج أخذة في التعالي والتصاعد ثم ترتطم بشدة بالصخور لتعود وتقذفنا نحو الداخل رويدا رويدا ..
تجاوزني الأصدقاء حتى لم أعد أرى أحدا منهم .. تعالت الأمواج وارتفعت .. أتى المساء مسرعا وأظلم الكون في ليلة غضب فيها القمر واختفي .. أسقطت الأمواج عني نظارتي .. فلم أعد أرى شيئا .. لا أعلم أين أنا .. ولا كم تبعد الصخور ولا الشاطئ عني ؟ انتابني قلق وخوف شديدين .. تثاقل جسمي وشعرت بذراعي جبلا وبأرجلي جبالا .. !
أخذت ألهث .. أتنفس في سرعة شديدة .. الماء تغمرني .. تغتصب أنفي وفمي وعيناي في منتهى العنف والقسوة .. أنا في حاجة لطلب الغوث من أصدقائي أو من أي أحد كان .. ولكني لا أستطيع الكلام .. فضلا عن أني لا أرى أحدا أصلا ..
أعوم في قلق وتوتر ذات اليمين مرة وللشمال مرات .. أسبح ناحية الأمام حينا .. وإلى الخلف أحيانا .. وفى كل تجبرني الأمواج على السباحة في اتجاهات متضاربة ودون إرادة مني .. تقاذفتني الأمواج كما تتقاذف الرياح العاتية قشة بالية ..!
لا ..لا أريد أن أموت الآن .. لا أريد أن يبتلعني هذا البحر المظلم .. كلى إصرار ورغبة في النجاة .. ألهث وأخبط وأسبح وأغرق ولكن .. بلا جدوى ..
انحصرت كل حياتي ذات العشرون عاما حينها .. في مشهد عابر لصورة أمي .. ثم ضعفت قواي وخارت عزيمتي .. واستسلمت للموت .. حل السلام بداخلي .. لا حب .. لا كره .. لا مستقبل .. لا ماضي .. لا شيء .. لا شيء .. فقط الخواء من حولي .. والعدم في انتظاري .. !
توقفت تماما عن الحركة .. قل ضغطي .. وزال توتري .. وانجلى قلقي .. فخف جسدي .. وفى برهة أدركت أن الأمواج العائدة التي تدفعني في ذاك الاتجاه .. ما من شك أنها عائدة من بعد ارتطامها بالصخور .. فرحت أسبح بسرعة في الاتجاه المضاد .. وسيطرت عليّ مشاعر مختلفة ومتناقضة .. ألم وخوف وأمل ويأس وإصرار وعزيمة واستسلام وخضوع ورفض وقوة وضعف وتفاؤل وتشاؤم .. وكأن مشاعري قد جمعت جميعها وضربت في إناء واحد .. لتخرج علىّ في تلك اللحظة وبهذا الشكل ..
ولا بد أن عناية إلهية أدركتنى في تلك الليلة العصيبة .. أو ربما دعوات أمي الطيبة .. فما هي إلا ودقائق مرت علىّ وكأنها سنوات طوال حتى تعلقت بأحد الصخور المتناثرة حول المصدة .. فتشبثت بها .. وأعدت التعارف علي نفسي .. ثم بعد قسط كبير من الراحة أكملت المسير في اتجاه الشاطئ .. وعدت من الموت .. وتمت لي النجاة ..
قضيت ليلتي تلك على الشاطئ .. وأفقت في صباح اليوم التالي .. على أشعة الشمس وأصوات القادمين لزيارة البحر .. نفضت عني الرمال التي التصقت بى وكأنها من جسدي .. وعدت إلى أصدقائي ليخبروني أنهم ظنوا أني قد تعرفت على إحداهن لأقضى معها ليلتي تلك .. وأصروا على أني قد خسرت السباق و ويتوجب علىّ حسب الاتفاق المبرم بيننا أن أقوم بأعمال المطبخ لمدة أسبوع قادم ..!
هززت رأسي بالموافقة .. ثم هممت بمغادرة الإسكندرية .. فعدت إلى القاهرة في زيارة أنهيت فيها بعض الأوراق المتعلقة بالجامعة .. وقبل كل .. عملت على استخراج نظارة جديدة بدلا من المفقودة في عرض البحر ..!
2 تعليقات على تلك كانت أول مرة أجرب فيها الموت
والله حصل معايا زيك بالظبط لكن ما قضيتش اليوم على الشاطئ طبعا لكن وصف دقيق جدا
لكل شيء مرة أولى يا محمد! لكنها حين ترتبط بالموت, تغدو المرة الأولى استثنائية ونادرة وجديرة بالتذكر … تغدو نقطة تحول…شكرا على تدفق كتاباتك