ربما بعد كل هذه السنوات لا يزال التساؤل مثاراً حول كيفيه إنتهاء الإتحاد السوفيتي بعد عقود الصراع الطويلة و قد أسهم كل طرف في تقديم رؤيته و بعضها شامل و بعضها من زاوية النظر الخاصة أو من جانب عقائدي ، في هذا الطرح احاول وضع اهم الأسباب المختلفة التي قادت الإتحاد السوفيتي للتفكك بشكل غريب في النهاية فبين معاهدة إنشاء الإتحاد في 29 ديسمبر 1922 و بين إتفاقات بيلاوفيشسكيا 8 ديسمير 1991 مدة 69 عام كاملين من الحياة و الانتماء و الصراع و النجاح و الخسارة أثروا في كل قارات العالم و من المستحيل علينا كعرب كنا يوماً من أقرب الفئات خارج الاتحاد للسوفييت أن نتجاهل الأسباب مكتفين بعبارة لقد إنتهوا و هذا يكفي . عبر التالي مجموعة الأسباب الرئيسية التي قادت للتحلل الكامل لللإتحاد..
..
*1* حين تكون الإتحاد عام 1922 كان خرقاً لرؤية ماركس حول قياد الدولة الشيوعية الأممية ببلد صناعي به طبقة العمال التي بحكم كونها تتعرض لضغوط أصحاب رأس المال و بحكم كونه بلدا صناعيا سيتكون لديهم عمال مناضلون و مثقفون يتولون تأسيس الدولة, و هما العنصران الذان تتكون بهما قاعدة أساسية للماركسية الحاكمة ، لكن الإتحاد قام ببلاد زراعية او نصف صناعية و قوامه الأصلي المزارعون و عملياً إنعدمت طبقة المفكرين و الفلاسفة و حتى نماذج مثل تروتسكي تم القضاء عليهم بيد ستالين في إطار الصراع السياسي الشهير فالبداية متناقضة مع أطروحات ماركس.
*2* كانت مشكلة التعددية العرقية داخل الاتحاد فارقة في العمل القيادي, فالقيادة دوما ثلاثية إلا في اوقات محدودة كعهد ستالين و جزء من عهد خورشوف فطوال الوقت هناك أكثر من طرف لا بد من موافقتهم ليتم الأمر أياً كان فصنع هذا إرتباكا بينا في تسلسل القيادة السوفيتية و إرتبط الأمر بالتنوع العرقي داخل الاتحاد بين جورجيين و أوكرانيين و ترك (تركمان ، أذريين الخ..) و الجنسيات البلطيقية مما جعل الاضطراب يمتد حتماً لمتخذي القرار على تعددهم, وجعل و حسابات عدة تخترق الإرادة الحديدية. فعلى سبيل المثال حين يوجه الدعم لمصر الناصرية يظهر بولنديون يتساءلون عن سبب دعم بلد معاد للشيوعية و قومي (و ليس امميا) ثم تبدأ أقاويل عن إضطهاد الحلفاء الشيوعيين و الأعراق الغير سلافية الخ الخ مما يربك القيادة السوفيتية و بالذات في عهد الثلاثي برجنيف و بودجورني و كوسيجن.
*3* إنعدام إمكانية النقد الذاتي للتجربة السوفيتية, فمع عهد لينين كان التأسيس ذو الزخم الذي غطى كل شئ لتبدأ الحاجة الماسة للنقد في العهد الستاليني الذي طغى الاستبداد على إمكانية نقده, ثم ظروف الحرب و ما تلاها ليأتي عهد خورشوف الذي كان ربما يحاول تقديم نقد ذاتي بنفسه دون السماح بهذا لغيره و أبرز شئ تم كان تقرير رئيس الحزب الايطالي الشيوعي بالميرو تولياني الذي كتبه و توفي وهو يخط آخر سطوره و نشرتها أرملته ثم إنتقلت في أواخر أيام خورشوف للعلن لتنفجر كالقنبلة و تطيح ضمن أسباب أخرى بخورشوف لتبدأ قيادة جديدة لا تريد أي نقد ثم تتداعى حتى وفاة بيرجينيف ليأتي أندروبوف الذي يحاول إحياء فكرة النقد الذاتي و الاصلاحات التي طرحها ثم مات قبل ان يحدث أي تغيير و كان خلفة تشيرنينكو متجمد لا يفكر في إستكمال عملية اندروبوف تاركا الامور كما هي و حين حاول خورشوف الاصلاح بما عرف لاحقاً بإسم البروسترويكا و الغلاسنوست كإستنساخ لرية أندروبوف كان التطبيق كارثيا و العصر إختلف و الوقت فات.
*4* كان سباق التسلح إستراتيجية أمريكية لاستنزاف الاتحاد السوفيتي ماليا و نجح الامر, فبينما رأى خورشوف التوقف عن التوسع في صناعة الدبابات و البحرية و الطائرات لكون الردع النووي كافيا, رأى جنرالات و ماريشالات جيشه التوسع الكامل بالسلاح التقليدي, و نجحت رؤيتهم و رحل خورشوف ليسقط السوفييت في فخ استنزاف كامل لمواردهم المحدودة أصلا في سباق تسلح مجنون أرهق الامريكيين و دمر السوفييت ، كذلك الدعم المالي الهائل لأكثر من 40 دولة عبر العالم تابعة لهم او حليفة مما جرف ثروات الاتحاد و حوله لبلد مفلس ، كذلك حرب أفغانستان و الحظر السعودي على أي إستثمار من دول البترودولار بأي جزء من الاتحاد كل هذا أفلس الاتحاد رسمياً منذ بداية الثمانينيات.
*5* كانت التعددية العرقية مع التداعي السياسي و الاقتصادي و سياسات حكومة خورشوف كلها بابا لتصعيد المد القومي في كل جمهوريات الاتحاد و تصعيد إما فاسدين خاضعين للغرب أو قوميين متشددين بناء على الماضي السئ للإتحاد مع القوميات التي يضمها أو الاثنين معا ً كما حدث باوكرانيا عبر ليونيد كرافتشوك مثلاً ، يمكننا هنا التأكيد على أن الاتحاد شهد ذروتين لمأساته الأولى حين صوت المكتب السياسي للحزب لعزل خورشوف و كان خورشوف شخصيا أول من رفع زراعه لتأييد عزله و الذروة الثانية في إتفاقيات غابة بيلاوفيشسكيا حيث تم إنشاء رابطة الدول المستقلة كبديل عن الاتحاد السوفيتي و إنهاؤه رسميا ثم إبلاغ الرئيس بوش بالأمر من قبلهم (رؤساء الجمهوريات المجتمعين) قبل إبلاغ رئيس الاتحاد شخصياً.
*6* إستهلك الصراع الشيوعي – الشيوعي الكثير من القدرات لكل الاطراف و حول جزء هاما من موارد الاتحاد لمواجهة الشيوعيين الاخرين و تحديدا الصين في وقت كان الغرب كتلة واحدة بكل اختلافاتهم تحت قيادة الولايات المتحدة و ربما لإنعدام الأيدولوجيا كان الامر بالغرب أسهل من الشرق الملئ بالتعقيد المذهبي داخل الشيوعية ، ربما يكون أوضح مثال هو أن الادراة الامريكية وضعت خطا أحمر على سياساتها بحيث لا تقود أبدا لأي تقارب صيني سوفيتي و كان كل طرف منهما حريص على التنافس مع الاخر و العداء له صانعين معسكرين داخل المعسكر الواحد مهدرين قدرات و موارد كانت لتصنع فارقا بالنهاية في الصراع العالمي.
*7* كان التوسع السوفيتي طيلة العهد قائماً على توسع أيدولوجي دون مكاسب مادية مرافقة عكس التوسع الأمريكي الذي كان يعتمد على إمتصاص دماء الشعوب التي تتحالف معها عبر شركاتها الكبرى مما جعل مسيرة الحرب الباردة معول هدم للإتحاد و خط سير عكسي لخط الغرب فالشرق الشيوعي يسير داعما منفقا على حلفائه مهتما بالتأييد الايدولوجي او على الأقل التقارب اما الخط الغربي يحصد الارباح البليونية من كل بلد يضمه له فالمحصلة النهائية كانت شللا إقتصاديا تم تحويله غربيا عبر عهد جورباتشوف لوسيلة تدمير للإتحاد.
*8* مع الازمة الاقتصادية السوفيتية كان عهد خورشوف قاطعاً في تدمير الاتحاد فسياسته كانت تعتمد على الاقتراض من الغرب مقابل تنازلات سياسية و الابتعاد عن دعم الدول التي تدور في فلكهم عبر قارات العالم ، اكبر مثال كان في زيارة سعود الفيصل للإتحاد السوفيتي سبتمبر 1991 لمنحة 5 مليارات دولار قرض و منح مقابل ان يدعم السوفييت عاصفة الصحراء كذلك منح الجمهوريات الاتحادية المزيد من الاستقلالية كان له ثمن مالي و الانسحاب من ألمانيا الشرق ية كان له ثمن مالي في سلسلة تنازلات دمرت قوة الاتحاد عملياً و أغرقته في عبء خدمة ديون لا قبل له بها فتحول عهد الاصلاح الذي تاجل من الثلاثينيات إلى عهد يشبه عهود جمهوريات الموز من تكبيل الدولة بالديون و فرض الاشتراطات السياسية عليها و التي ادت فوراً لزيادة استقلالية جمهوريات الاتحاد أكثر فأكثر.
2 تعليقات على لماذا سقط إتحاد الجمهوريات السوفيتية الإشتراكية؟
تحليل مهم كالعادة يا عزيزي محمود…لا يقول “اكتفينا” للتاريخ ودروسه إلا أمة جاهلة!
والحقيقة أني أحب أن أؤكد على بعد التعددية العرقية الذي أشرت إليه في مقالك, ليس فقط من ناحية إرباك القيادة, بل كذلك من ناحية عجز الشعوب السوفيتية المختلفة عن تحقيق هوياتها الثقافية بخاصة المتجلية في عنصري اللغة والدين. وأنا إذ شير إلى البعد العرقي الثقافي, أحب أن أستدعي عنوانا أكبر وهو “القوة اللينة” soft power… فبينما أجادت وتجيد الولايات المتحدة اللعب بهذا العنصر من خلال تسربها للاوعي الجمعي للشعوب عبر السينما والروايات والخطابات السياسية التي تنضح بالقيم والأخلاقية والمسئولية الدولية وحقوق الإنسان, اكتفى الاتحاد السوفيتي بالسيطرة على العقول عسفا من خلال برامج التعليم الفقيرة ضيقة الأفق وتصنيع الراديوهات السوفيتية المضحكة ذات المؤشرين الاثنين فقط (مؤشر للفتح والغلق, ومؤشر للصوت!) هكذا دون مؤشر لتحويل المحطات لأن القيادة لم تكن تسمح إلا بتوحيد الأهواء والعقول, وبالخطابات التي تداعب أحلام الفقراء وتعدهم بمثاليات المساواة فيما ينضح الواقع بالفقر والعوز…
أشكرك على المقالة و{جائي أن تتأتي مقالاتك المستقبلية مشفوعة بإشارة للمصادر التاريخية التي تم استخدامها, وذلك لدعم جهدك المحترم يا محمود
موضوع الاستنزاف عبر التسلح كان أهم الأسلحة لتدمير الاتحاد , وكان هذا تخطيط من أحد وزراء أمريكا الذي قال بأنه سيجعل الاتحاد السوفيتي قوة عظمى بدون رغيف خبز , أضف طبعاً إليها موضوع الشمولية والانغلاق الزائد عن اللزوم