في كنف الليل، حيث أن كل شيء يحب الهدوء، خرج شاب مطرود من جنة والده، في جو لم يكن أبداً بهدوء هذا الليل، الشاب خرج من جنته تلك مطروداً تماماً كجده (آدم) خرجا كلاهما لحياة لا يعلمونها، وبذنب لم يقترفوه، خرجا لحياة جديدة كانت للجد فيها السلطة والنفوذ لكونه كان السّيد في قصته تلك، أما ذلك الشاب الحفيد فلم يكن أبداً من الأسياد، خرج إلى تلك الحياة الأخرى محمولاً بلعنات عائلته جميعها، وها هو الآن يمشي في طريق لم يختار بدايته ولكنه اختار نهايته ويمشي الآن نحوها.

الليلة لم تكن أبداً كالبارحة، لقد طُرد الشاب من جنته، وخرج يملؤه غضب من حياة عابسة، لم تنير له رغم كثرة النيران التي يراها كل يوم، وها هو يمشي الآن ما بين معركة جديدة بين مجموعة من المتعاركين، النساء، والعجائز، والأطفال جميعهم يهرولون هناك وهناك، يصرخون، يحاولون الهرب من هول ما يحدث، جميعهم خائفون، يرتعشون، وبعضهم يدعي ربه أن يزيح هذا الدمار  الذي خلفته المعركة، خطواته الثقيلة ما بين كل هذا جعلته غريباً حقاً، ونزوحه المتواصل إلي تلك البناية العتيقة التي تتوسط شارع المعركة، والتي كانت مهجورة منذ أن مات فيها جدهم الأكبر، وصاحب الشارع بأسره، الجميع يخشاها، ولا يقتربون عندها إلا للتبرك بروح ذلك الجد، وسأله كثيرين عن سبب وجهته لتلك البناية، وسأله آخرون..

- ألا تخشى روح الجد يا ملعون؟!

وصل الشاب إلى البناية التي كانت مظلمة، أدوارها السبع وقفت خاشعة كما هو كل شيئاً بها، أبوابها التي لن تغلق أبداً منذ نشأتها في وجه أحد من مريديها، دخل الشاب الأبواب المفتوحة والتي كانت معتمة رغم النيران التي تنير ظلام الشارع بالخارج، بدأ في صعود السلم، وضع قدمه على أولى الدرجات، صوت طفل يبكي يسمعه بوضوح، ظل يبحث عنه في عتم الليل لم يجده فانطلق صاعداً إلى وجهته، وصل إلى أول أدوار البناية فوجد الطفل يلعب ويلهوا، كان طفلاً جميلاً حقاً، شعره معقوداً من الخلف بطريقة “ذيل حصان” وجهه مليء بمساحيق التجميل، تلاعبه فتاة عمرها لا يتجاوز السادسة عشر نظر إليهما الشاب بذعر كبير، الطفل يشبهه كثيراً, والفتاة لم تكن سوى شقيقته، نظرت إليه الفتاة وقالت بحزن كبير:

- لم أكن أقصد أن يكون مصيرك هذا، كنت أدللك فحسب.. أخي أرجوك سامحني.

دموع الفتاة جعلت قلبه يعتصر من الحزن, هرول إليها، فتح ذراعيه ليحتضنها ولكن الصورة ذابت أمامه كما لو لم تكن موجودة، صرخ الشاب، وانسابت دموعه لتبلل خديه, ظل يصرخ:

- أنتِ وأخوتك السبب فيما أنا فيه، لماذا جعلتموني هذا المسخ، لماذا جعلتموني هكذا، أنا أكرهكم.. أكرهكم جميعاً، أذهبوا إلى الجحيم، لا أريدكم.

قالها ومسح دموعه وصعد ليتم رحلته التي بدأها، الظلام يسيطر على كل شيء، استمع إلى صوتاً كان يعلمه بشدة، كان الصوت أجش أشبة بصوت حيوان قادم من الجحيم, كان يسب امرأة قائلاً:

- أنتِ من جعلتِ منه شاباً رخواً لا يتحمل المسئولية، أنتِ امرأة مستهترة، وهذا الشاب المخنث من صنع يداك.

الصوت كان صوت والده، الذي طالما ضربه وأهانه، خاف الشاب، ولكن الغضب تمكن منه، فصرخ بأعلى صوته لعل الصوت يسمعه:

- أنت السبب يا هذا, أنت من جعلتني هكذا، لقد منعتني من اللعب مع من في سني، لقد منعتني من كل شيء، هل نسيت ضربك لي واتهامك أنني ضعيف لا أقدر على فعل شيء، أنت من زرعت داخلي الخوف والذعر من كل شيء، أنا أكرهك وأكرهها وأكرهكم جميعاً.

لم ينتبه الصوت إلى ما قاله الشاب، وأكمل ولكن موجهاً حديثه لآخر:

-       أنت شاذ، يا فضيحتي، ماذا كنت تفعل أنت وهذا الشاب؟!.. يا ملعون، جهنم هي مصيرك، أنت شيطان رجيم، أخرج من منزلي.

صوت الرجل أصبح مصحوباً بأصوات عديدة فهذا يقول:

- لا تقتله يا أبي لا تزيد فضيحتنا.

وتلك تقول:

- أنت السبب في عاري وعار العائلة أقتله يا أبي أقتله.

وصوت أخرى تقول:

- لا تقتله أرجوك، سأعالجه مما هو فيه، لا تقتله أرجوك، لا تقتله.

 سكتت الأصوات والشاب أصابته حالة انهيار تامة، لم يحتمل جسده كل هذا فسقط منهاراً، وظل يدمدم بصوته الذي أتعبه الصراخ.

- لا تقتلني، لا تقتلني.

تذكر وقتها لقائه مع ذلك الشاب، لم يقم بعلاقة جنسية معه، كان الحزن يملئه، وكان الشاب جاره وأعز ما لديه في دنياه، ظل يحكي له عما يؤرقه في حياته، كان يشعر أن لديه مشاعر مزدوجة، كان يشعر بأن داخله أنثي، ظل يحكي له عما يمر به فما كان من صديقه إلا أن أخذه بين أحضانه وظل يمسح في دموعه، حاول الشاب تقبيله ولكنه أبعده برقة فما كان من هذا الشاب إلا أن أحتضنه بشدة وظل يقبله حتى دخلت شقيقته فصرخت لأباها، وتجمعت العائلة، تذكر الشاب لحظات طرده من المنزل، بعدما فشل والده في قتله، تذكر نظرة عائلته جميعها وهم ينظرون إليه نظرة مليئة بالحقد والكراهية، تذكر كلمات والده التي قالها في تحدى:

- لو رأيتك في أي مكان في المدينة سأقتلك، هيا يا ملعون أغرب عن وجوهنا ولا تلوثنا.

تذكر الشاب كلمات والده فهب واقفاً وقد عاد إليه التحدي لإتمام غايته تابع، الشاب صعوده على السلم فاستمع إلى صوت يحبه كثيراً, نظر إلى الصوت فوجده حبيبه الذي نظر إليه نظرة دافئة وقال له:

- حاول أن تعيش وأن تخلق لنفسك عالمك الخاص.

شعر الشاب برغبة في أحضانه ولكنه بدوره اختفي، استمع الشاب إلى الصراخ في الشوارع, إلى أصوات الرصاص التي لم يسمع غيرها طوال شهرين، تذكر لحظات البحث عن الطعام في مخلفات المطاعم، وفي القمامة، تذكر نظرة السخرية من عيون الجميع عندما يذهب للبحث عن عمل يؤهله لأن يعيش، كان جميعهم يرددون نفس الكلمات، كانت كلماتهم تقتله، كانوا جميعهم يصفونه ب “المخنث”, يشعر هو بأنه حقاً، ويشعر بأنه تماماً كجده ليس له ذنباً في (شجرة التفاح)، يعلم تمام العلم أن الجد تاب عليه “الرب” وصعد إلى الجنة التي طُرد منها، واصل الصعود كما طُرد، حتى وصل لغايته سطح البناية وفي دورها السابع وقف، في مواجهة تاريخية جديدة ما بين آدم والسماء، السماء من فوقه حزينة وملبدة بالغيوم، والأمطار كانت دموعاً تنساب من السماء لتشاركه دموعه، وقف منتصباً، وبكبرياء المنتصر وقف، وبصوتٍ جهور تعدى صوت “الرعد” الذي كان يضرب كما لو طبولاً للحرب، نعم كانت الحرب والتحدي الأخير، وربما تكون ساحة للمغفرة، والعودة كما عاد الجد، إلى السماء نظر، وللسماء قال:

- أيتها السماء المضطربة، ماذا تخشين..؟! ولما هذا الاضطراب..؟! أمن جسداً ضعيفاً تضطربين..؟! فلتنظري إلى علامات القسوة التي تركتها عيونهم فوق جسدي.. فلتنظري لذلك الخوف الذي جسد لي إلهاً وكنت أقدم له القرابين ذلاً وعاراً.. هيا.. هيا أيتها السماء فلترمني في المصير الأسود والنيران المتوهجة.. لست أبالي.. ولن أبالي.. فأنا خلقت من نيران أكثر قسوة، هيا ارمي عليّ كل التهم (فاسق) و(فاجر) و(شاذ) هيا قولي أنا السبب في نقصان المطر هنا.. أو في مجاعة هناك.. وأنا السبب في كون هتلر ديكتاتوراً.. أو أنا السبب في انتحار ذلك الشاب المسكين عندما تركته خطيبته.. نعم.. أنا السبب في كل هذا.. وأستحق العذابات جميعها، أنا مثله تماماً طُرد من الجنان ليرفع على كتفه آلام البشر لكونه هو أباهم.. ولكني لست بقوته.. أنا لست بقوته.. لم أحتمل، وأريد العودة كما عاد، هو قضم من التفاحة، وأنا قضمت هي مني، سأصعد إلى وجهتي ولم تمنعيني، ولم تقدري أن تمنعيني..

بكت السماء كثيراً لحاله ولم يبكي، أرسلت السماء بدموعها لتؤنسه وحدته ولم يؤنس، غنت السماء له ريحاً ولم يسمع، صمت أذناه، وغش بصره، ولم يعد يرى إلا بقلبه، اقتحم الصوت بصوته فصرخ ثم تحرك رويداً رويداً إلى قدره الذي اختاره، هرول ناحية السور، سطح البناية المعتق تعانقه أسواره من كل اتجاه، هرولته أصبحت جرياً عندما اقترب، السطح عظيم الاتساع، يجري بداخله كفأر يخشى صياده، يجري ولا ينظر إلا أمامه، وعندما اقترب إلى السور توقف.. وبهدوء تسلق، وبهدوء أكثر وقف شامخاً ناظراً إلى السماء التي تبكي، وقلبه يرقص من السعادة.

تمت.