‘ أنوي تشجيع حرية التعبير، حتى يستفيد منها جميع الموريتانيين، بغض النظر عن كل التجاوزات والهجمات التي تعرضت لها شخصيا’

محمد ولد عبد العزيز رئيس الجمهورية، أثناء لقائه مع منظمة ‘مراسلون بلا حدود’ 27 أكتوبر 2009، بباريس.

إن التنظيم الطبقي، وأصناف تقسيمه المهني في المجتمع الموريتاني يجد مبرره ومرجعيته، من خلال أسطورة ‘تأسيسية’ تقضي بتحرير مطلق للكلمة: ‘امنعوه خبزه.. لكن دعوا لسانه طليقا’. انطلاقا من هذا المبدإ ‘تبنى’ المجتمع حتمية منع الفرد من مجمل حقوقه، مقابل صيحة محبطة!

فالخطاب في هذه الحالة، له أن يطول دون نهاية وينتشر دون تأثير. لكن الكلمة عندما تلحق بالفكرة، يولد رأي يحتاج إلى متسع ‘مدني’ من خلاله تتحطم كل الحواجز الاجتماعية المطاطة…
هكذا يمكن للموريتانيين أن يعتبروا أنفسهم الورثة الأخلاقيين ـ على الأقل ـ لهذا النسق الرافض لسطو ‘الحتميات’ السخيفة.

الإنترنيت والولادة القيصرية!

يمكن التأريخ لدخول الإنترنيت في موريتانيا بنهاية التسعينيات من القرن الماضي في فترة تميزت بتصاعد الاحتقان السياسي، وسيطرة الدولة على هذا الفضاء المعرفي والإخباري، باحتكاره من طرف موزع خاص ‘توب تكنولوجي’ آنذاك، أيام كان الحقل تابعا لوزارة الداخلية والبريد والمواصلات!

ويمكن تناول أهم المراحل التي مرت بها الشبكة في موريتانيا بتفاوت من حيث استخدامها وقوة تأثيرها، بفعل الواقع التكنولوجي من جهة والحيز القانوني من جهة أخرى، إضافة إلى تعثرات الامتهان في مجتمع منفتح، ومتعطش للخبر بشحنته الشفهية، أكثر من حيثياته المهنية، التي تأخذ بعين الاعتبار عناصر موضوعية وضوابط قانونية.

الإنترنيت؛ الاستثناء !

بإشراف مباشر من هيئة البريد والمواصلات تم إطلاق شبكة الإنترنيت سنة 1997، في مقر الهيئة التي كانت آنذاك تابعة لوزارة الداخلية والبريد والمواصلات، لتزويد الإدارة وجامعة نواكشوط، إضافة إلى بعض الهيئات الحكومية الأخرى، واحتكار من طرف مؤسسة خصوصية تتولى توزيعها على الأفراد تحت رقابة مشددة من طرف الشرطة السياسية آنذاك، بسعة جد متواضعة، تقدمها شركة الاتصالات العمومية الفرنسية! مع ذلك تم استغلالها على نطاق واسع من طرف جماعات سياسية وحقوقية بالخارج لمحاربة النظام القائم آنذاك، من خلال تسريب بعض المعلومات عن وضعية حقوق الإنسان، وسوء التسيير، لشركاء البلد في التنمية، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية.

الانطلاقة المحتشمة للمواقع الإخبارية !

عرف قطاع التقنيات الجديدة، على غرار بعض المجالات الأخرى الحيوية خوصصة فوضوية، فرضها الممولون، لم يرافقها الإطار القانوني الملائم لها، بحكم تردد الإرادة السياسية آنذاك ، حيث ظهرت مطلع العام 2002 أول المواقع المهتمة بالأخبار في موريتانيا على شبكة الإنترنيت، ‘كالأخبار’ و’صحراء ميديا’، التي أقبل عليها أساسا موريتانيو الخارج لقلة انتشار خدمات الإنترنيت في البلد وغلائها. مع ذلك بدأت تزاحم ‘رجل الشارع’ أو تضفي عليه على الأقل نوعا من المصداقية، لما عرفت الأخبار الواردة فيها من انتشار في الأسواق والأحياء الشعبية من طرف الناشطين السياسيين، الذين عملوا على سحبها وتوزيعها على شكل مناشير! من الناحية المهنية صاحب هذه الانطلاقة الكثير من النواقص الفنية لعدم تطابق محتوياتها مع القواعد المتعارف عليها للمحتوى الإعلامي الرقمي، الذي كان ساعتها في طور التشكل حتى على المستوى العالمي.

الطفرة الرقمية !

كانت المادة (11) من قانون الصحافة الصادر سنة 1991، تخول وزير الداخلية صلاحية، ‘منع: نشر، وتوزيع كل مطبوعة تمس بأمن الدولة، أو تسيء إلى دولة مجاورة، كذلك القيم والمبادئ…’ مفهوم مطاط يجعل مضمون الصحافة برمته في متناول مقص الرقابة، دون أي تعليل، كما كان يقر نفس القانون!

أمام هذا الباب المفتوح كانت المصادرة جزءا ‘عاديا’ من حياة الصحافة الموريتانية: حيث صودرت لإرضاء عشيقة الوزير، وحماية القاضي المرتشي، والمدير المتطاول على المال العام…أمام صمود الصحافة المستقلة، عمدت وزارة الداخلية إلى ‘مصادرة’ مناشير مخبريها، كي تختفي المصادرة السياسية في زحام ‘أزمة مجتمع’ لم يستعد بعد لممارسة حقه في الحرية.

لكن التشاور الوطني الذي انعقد أكتوبر 2005، بعد الإطاحة بدكتاتورية العقدين، مكن من إصدار قانون جديد لحرية الصحافة يلغي المصادرة بصفة نهائية ويقر مبدأ ‘الإعلان’ لدى النيابة العامة، المعتمد في أعرق الديمقراطيات العالمية، مما شكل فسحة جديدة لترسيخ ممارسة حرية التعبير في المجال الصحفي والنقابي والسياسي وحتى التنموي، لكن إهمال المرحلة الانتقالية الأولى (2005/ 2008) للصحافة الإلكترونية، جعلها تعيش نوعا من الفوضوية في المحتوى والأساليب، تجسد عبر بعض الانزلاقات الخطيرة في بعض الأحيان التي طالت الأمن القومي والوحدة الوطنية، فضلا عن الحياة الخاصة للشخصيات العمومية والمجموعات الاجتماعية والمؤسسات التجارية.. وقد تجسدت هذه الانزلاقات أكثر خلال ‘الأزمة’ التي شهدتها البلاد إثر تعطيل الرئيس المخلوع للمؤسسات الدستورية، وما رافقها من احتقان حاولت بعض التشكيلات السياسية استغلاله ‘لتدويل’ الأزمة، التي نجت البلاد منها بفضل وعي الشعب الموريتاني وحجم التنازلات التي قدمتها النخب الوطنية لإشراك جميع مكونات الطيف السياسي في حيثيات الحل، رغم اختلال موازين القوى آنذاك.

الثورة الرقمية في موريتانيا

حافظت موريتانيا على تصدرها من حيث حرية الصحافة وتداول الشبكات الاجتماعية وباقي الوسائل الرقمية الأخرى على بلدان المغرب العربي الخمس، ودول الساحل بغرب افريقيا، وذلك بحصولها على المرتبة ال67 عالميا حسب الترتيب العالمي لمنظمة مراسلون بلا حدود ( RSF ) للعام 2011.

وتقدمت موريتانيا على دولة الكويت صاحبة المركز الثاني عربيا؛ بفارق 11 مركزا في التصنيف العالمي الذي احتلت فيه الكويت المرتبة الـ 78 عالميا.

واعتبر التقرير موريتانيا البلد الأكثر احترامًا لحرية الصحافة مغاربيًا، وذلك بعد المصادقة على قانون لتحرير الإعلام السمعي البصري وإلغاء جرائم الحبس ضد الصحفيين، وإقرار الدعم العمومي للصحافة الخاصة.

كماورد في نفس التقرير على لسان الأمين العام للمنظمة الدولية ‘إننا نشيد بهذه الخطوة المتقدمة من أجل حرية الصحافة في موريتانيا ‘. وكانت موريتانيا قد احتلت المرتبة 100 حسب ترتيب 2009 مكتسبة خمسة نقاط إضافية لضمانها لحرية الصحافة الورقية واستغلال شبكة الإنترنيت بصفة عامة، التي أصبحت من بين الخدمات الجد عادية بالنسبة للموريتانيين من جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والفئات السياسية.

رغم حدوث بعض الانزلاقات، الخطيرة في بعض الأحيان، التي رفعت آنذاك أمام القضاء الموريتاني، تدخل رئيس الجمهورية على عدة مرات للعفو عن صحفيين وناشطين على مجال الإنترنيت، تكريسا لإرادته في تعميق وترسيخ الحريات، كسبيل لإشراك الموريتانيين، خصوصا الشباب في تحقيق تنمية شاملة.

خصوصا الشبكات الاجتماعية التي مكنت الشباب الموريتاني من التواصل والتصالح وتبادل التجارب بعد القطيعة التي أحدثها ماضي الاستبداد من جهة، وإهمال الولايات الداخلية، التي كانت تعيش شبه عزلة على مستويات الاتصال والبنى التحتية والخدمات، والمشاريع القادرة على خلق فرص عمل للرفع من مستوى دخل الشباب وتمكينه من وسائل البحث العلمي والأكاديمي، من خلال ربطه بالعالم الذي أصبح قرية واحدة.

تعتبر الثورة الرقمية سلاحا ذو حدين، قد يتسبب، إن لم يحسن استغلاله، في الإسائة إلى مقدسات وهوية الأمة، والنيل من لحمة مكوناتها، والتشويش على حياتها الديمقراطية، كما حصل في كثير من دول العالم التي تنتهج أعرق وأكثر الديمقراطيات فعالية!

استحضارا لهذه المخاطر الكونية، وسعيا في وضع جميع الآليات التي تتيح الثورة الرقمية في خدمة الإنسان الموريتاني للحفاظ على هويته ووحدته ومكاسبه الديمقراطية، وكسب رهان التنمية، من خلال قهر العدو الأول، المتمثل في الجهل والفقر والمرض والتخلف.

في هذه الأجواء المتسمة بانتظام سير المؤسسات الدستورية، تم إصدار قانون، هو الأول من نوعه في المجموعتين العربية والإفريقية، وباقي الدول النامية، يسد الفراغ الذي كان المجال الرقمي يعاني منه، ليلتحق بباقي الحريات المصانة في موريتانيا، في حين مازال جزء كبير من المجال الرقمي خصوصا الشبكات الاجتماعية ممنوع الولوج في محيطنا الإقليمي المباشر، حيث يقع كل مستخدم له تحت رحمة قانون العقوبات، الذي يعاقبه في بعض الدول بالإعدام!

وفي أكبر تجسيد لهذه الثورة في مجال الحريات، صوت البرلمان الموريتاني على قانون يقر تمويل الصحافة الإلكترونية من طرف الخزينة العامة على غرار الأحزاب السياسية، وهيئة المعارضة الديمقراطية، والمنظمات الغير حكومية.

لايكاد يخلوا بلد عربي من مثول صحفي أو مدون أو ناشط ‘افيسبوكي’ أو ‘تويتري’ على مدارج محكمة تقاضيه بجرائم أو جنح رأي، في حين يمكن للشباب الموريتاني الافتخار اليوم بأن ساكن ‘بومديد’ و’كري’ و’عين فربة’ و’امبوت’، يغدون ويروحون على المواقع الاجتماعية بحرية مطلقة وطمأنينة حقيقية!

لكن، مادامت حرية التعبير بجميع أشكالها وأساليبها حق يكفله القانون وترعاه الإرادة السياسية المتوفرة، فإن القذف ، ودعوات التفرقة وبث الضغينة، والتطاول على المقدسات والمرجعيات الروحية، مسلكيات ينبذها ديننا الحنيف، وتتعالى عليها تفاصيل قيمنا ومروئتنا الحافلة بالتسامح والتضحية والبذل والجمال، كذلك المبادئ العالمية للحريات وحقوق الإنسان.

إعلام الضغينة!

بعد التحكم في تقنيات فن ‘البروباكانديا’ عقب الحرب العالمية الثانية، وتوجيهها لكسب الحروب والصفقات، والانتصارات الدبلوماسية.. حاول العالم الثالث ‘تقليد’ الغرب وأساليبه في نحر الملايين ‘بنظافة’، فأنتج ظاهرة ‘إعلام الضغينة’ الذي ارتهن الاستقرار بفعله حتى الساعة في كثير من البلدان الإفريقية والعربية على وجه الخصوص!

على ألسنة نار حرب الإبادة التي عرفتها ‘رواندا’ منتصف تسعينيات القرن الماضي، كانت إذاعة ‘الألف جبل/ ميل كولين’ تبث على الموجة القصيرة نداءات لذبح ‘التوتسي’ والمتعاطفين معهم من ‘الهوتو’، ليقضي أكثر من 800 ألف شخص خلال ثلاثة أشهر، بدم جمده الحقد المنتشر عبر الأثير.

في العراق وفقت قناة ‘الزوراء’ من إشاعة ‘ثقافة’ إرهابية في وقت وجيز بين مئات آلاف المراهقين، الذين أتقنوا عبر برامجها الدموية كيفية صنع القنابل، وأساليب الانتحار الجماعي.. في ساحل العاج شردت وقتلت الإذاعة الرسمية مئات الآلاف من مسلمي الشمال، بأمر من ‘بديي’ و’غباغبو’.. وفي موريتانيا أشعلت ‘الأخبار’ نار الفتنة العرقية بمناطق الضفة، وسعير الاقتتال القبلي ‘بالطينطان’، وجحيم المواجهات الجهوية في كبريات مدن موريتانيا.. لفقت بإتقان، سبت باحتقار حياة وأعراض وممتلكات مئات الآلاف من الموريتانيين، أمام الصمت المتواطئ لنقابات الصحافة، وقادة الأحزاب السياسية، وأئمة وعلماء موريتانيا.

يزداد حجم حتميات ‘المسؤولية’ لدى القوى المدنية كلما طفقت الدمقرطة في نحت هيكل الدولة بخلاخلها ‘الهوبزية’ ورحمتها ‘الراشدية’.. في موريتانيا لايكاد يتجاوز طموح التنظيمات ‘المدنية’ آليات الثراء السريع بالاستحواذ على الصدقات وتبييض الأموال عن طريق مضاربات السوق السوداء، و’بقية’ من سرقتهم مال الشعب الموريتاني على مدى عقود.. مستغلة ‘نضج’ المشهد القبلي بعد عقدين من الدكتاتورية.. مضمرة كل تناقضاتها في تنسيق نفعي يدعي منعشوه الاحتماء بمظلة ‘حرية التعبير’.. وإبداء رأيهم في أشياء معقدة ومهمة في الوقت ذاته، كتوازنات المالية والسياسات التربوية، واستراتيجيات الدبلوماسية، إضافة إلى السياسات الثقافية، وحتى الأمنية للبلد.. مشهد لم ينل حظه من الجمال، لتزايد ريعه ‘النقدي’ على نشطائه من منتحلين حديثي العهد بالحضارة!

يسعى ‘قراصنة’ الصحافة الصفراء إلى إفراغ المشهد السياسي، من مظاهر التعددية، ومحاولة التشويش على استقراره المرتبط بتنميته التي لم تعد تحتمل التأخير! إن سيادة ‘الشائعة’ في الصحف و’تحاليل’ بعض الأحزاب، وصمت المنظمات، وتقاعس المثقفين.. من أكبر المخاطر التي تحدق بالديمقراطية الفتية.. إنه تمييع لحرية التعبير، وانتحار للأحزاب.. وسقوط لسراويل كانت محكمة التثبيت!

منذ الخطاب التأسيسي ‘للأمة الموريتانية/ أطار 1957′ اعتمدت النخب السياسية أسلوبا ‘نقديا’ يتفادى التشهير بعائلات وقبائل الشخصيات العمومية.. حيث ‘أبدعت’ الصحافة الموريتانية، مشروع تمزيق السلم الاجتماعي!

تبقى حرية الصحافة ضرورية للمشاركة في ترسيخ الديمقراطية بصفة مسؤولة، لكن الشتائم وبث المغالطات، والنيل من أعراض مواطنين شرفاء.. يخرجها من دورها الإيجابي في العملية السياسية.

فحجم الحريات في موريتانيا، صيانة وممارسة يتجاوز بالكثير سقف مطالب عقود الرفض الخمسة، التي عرفتها الدولة منذ تأسيسها، خصوصا أن كل المطالبين ‘بالثورة’ ومموليها، من الرعيل الذي نهب الدولة الموريتانية في تسعينيات القرن الماضي! فمصداقية ‘الرفض’ تقتضي النأي به عن كل من يحن إلى عهود النهب والاستبداد!

*تم نشر هذا المقال في نسخة عطلة الأسبوع “للقدس العربي” بتاريخ 21 دجمبر 2012