لا يخفى على القارئ المتابع لي الأثر القوي للفكر القومي و الإعجاب بمجمل التجربة الناصرية ضمن أسس تفكيري التي تجمع من تجارب عدة كان بينهم حرب أهلية من تجربة الأتاتوركية و رؤية ميشيل عفلق البعثية و قراءات الأستاذ محمد حسنين هيكل و غيرها من مصادر عدة تطفو على سطح كتاباتي ، من هنا أكتب هذا المقال بأسى ولده موقف و تولد من الأسى ضرورة ما نسمية ورقة نقد ذاتي صريح تعرض للكل حتى نستطيع السير للأمام و لا نقبر في التراب مع تجربتنا ، هنا أيضاً نتذكر ورقة اخرى هامة هي ورقة تقرير رئيس الحزب الايطالي الشيوعي بالميرو تولياني الذي كتبها و توفي و هو يخط آخر سطورها و نشرتها أرملته ثم إنتقلت في اواخر أيام خورشوف للعلن لتنفجر كالقنبلة و كانت ثاني الارهاصات العملية -بعد تقرير خورشوف الشهير عن كارثية عهد ستالين- لما عرف لاحقاً إبان جورباتشوف بإسم البروسترويكا و الغلاسنوست المتأخرين عن وقت كان يجب ظهورهما فيه بشكل كان كاف لسقوط الاتحاد السوفيتي كله ، إن النقد الذاتي ورقة تتحول لتوصيات تقود لواقع إصلاحي فإن إختفى فانصح بالذهاب لقبر لينين و الانتظار !
* كانت البداية في تجمع ناصري رافض للدستور جلست سمعت و كنت احفظ ما سيقال فيها فهو مكرر و سليم لكن معاد الف مرة و إنتهت الجلسة ليتحدث البعض حول الأزمة السورية (التي أؤيد فيها الاسد بوضوح) وجدت طرفين طرف مؤيد للأسد بناء على شعارات قومية عربية متشددة و جمل لا أسمعها كثيرا من نوعية “الامبريالية المتوغلة المتصاعدة ضد الانظمة الثورية المقاتلة بالعالم الثالث” هكذا فقط دون أي توضيح تاريخي-سياسي- إقتصادي ، طرف آخر ضد الاسد لأسباب أهمها ان الحزب البعثي نصف العفلقي عدو لعبد الناصر و خائن للقومية ، قلة وقف بينها شاب يتحدث أن الاسد باع الجولان 1967 و سلسلة من الاتهامات الغريبة التي لاحقاً أدركت انها تلخيص لفيديو مدته 15 دقيقة عبر اليوتيوب ، بإختصار كل يغني إما على أوهامه أو على ليلاه أو يغني فقط !
* كان بالميرو تولياني رئيس الحزب الشيوعي الايطالي يكتب حين أصابته سكتة دماغية عام 1964 و كانت آخر جمل مذكرته نقد عنيف للأحزاب الشيوعية التي أصابها تصلب عقلي و تصلب شرايين و تصلب فكري و حرب اهلية بين الاحزاب عبر العالم الشيوعي ، هل يختلف العقل الناصري عن هذا عبر البلاد العربية سواء ناصريوا مصر او الجزائر أو مرابطي لبنان؟ .. المشكلة أن الداء ليس شيوعياً أو ناصرياً بل هو داء سياسي يصيب أي احد إن لم ينتبه له فالبرد يصيبك بالصيف و الشتاء معاً ، العقل الناصري تجمد تماماً على زمن واحد و عقل واحد و رؤية واحدة فالشاب يكرر ما يلقنه له الانترنت و الرجل العجوز يتحدث عن صراع البعث و عبد الناصر كمبرر لموقف يكونه عام 2013 -!! و الرجل المؤيد يؤيد من أجل التأييد و المؤكد أنهم جميعاً لم يقرأوا كتاب واحد عن سوريا قبل تكوين رأيهم.
* حين وصلت قيادة دينيز بايكال المصابة بتصلب شرايين بحزب الشعب الجمهوري التركي إلى التداعي حتى كادوا يخرجوا من البرلمان إحتاج الأمر أسطوانة جنسية و حرب أهلية بالساطور داخل أروقة الحزب ليخرج كليجدار أوغلوا رئيس للحزب يصافح كبار رجال الماضي صباحاً و يطردهم مساءً ليتنفس الحزب الصعداء و يخوض إنتخابات 2010 البرلمانية و ينجح بشكل جيد.
اليوم لا توجد شجاعة لدى الناصريين لإزاحة الجيل القديم الذي يحيا أساطير العهد السعيد بالستينيات، متى ينتبه الناصريون لأنهم ينتجون شباب ناصريين أشد جهلاً من أي جيل مضى لا يهتم أي قسم فيهم بالتثقيف بل بالتصفيق المستمر كالشاب الذي ظل يجادلني بشأن حافظ الاسد بخلفية فيديو ، متى ننتبه إلى أن حسابات السياسة مادية فقط و ليست شعاراتية فالقومية فكرة و شعار و نموذج إن تم إختزاله لشعار تحول لنكتة بذيئة.
* كان لي مع الأستاذ هيكل مشهد آخر فمع حلقتين في كل خميس بديسمبر مع لميس الحديدي وجدت نفس المشكلة فالرجل لدية ليس فقط كنز معرفي و تجربة هائلة بل لدية إتصال و تحديث للمعرفة مستمر بحكم صلاته الكبرى هنا و هناك الممتدة لأكثر من نصف قرن ، مع ذلك حين تحدث الرجل عن اتاتورك لم يختلف عن حديثه بالاهرام من 50 سنة كاملة فهو لدية نفس الخطأ بأن الخلافة الغيت 1923 بينما هي 1924 و لدية مشكلة ان اتاتورك انتزع تركيا من الشرق و هو شعار سليم شكلا كاذب فعلا أيضاً ذكره بالستينيات و كان يمكن فهم هذا في إطار حرب مشتعلة بين مصر و تركيا إبان عهد عدنان مندريس 1950-1960 و العهد العسكري إلى السبعينيات ، هيكل مصر على نفس عقلية نصف قرن مضت و كأن الحرب الباردة لم تنته و كأن تركيا كما هي لم تتغير و كأن إردوغان محسوب على أتاتورك ، الاستاذ كان متشدداً في عقلية الماضي و هو يتحدث دوماً بلغة المستقبل لدرجة تسامحه الشديد جداً مع الاخوان حالياً و مع الاخ الرئيس المؤمن المصلي المتعبد الاستبن محمد مرسي !
*الآن هل يمكن تنظيف العقل الناصري من داء الشيخوخة و داء الشعارات و داء الجهل؟
إن العقل الناصري وحده مازال مصر على التمسك برجل قلباً و قالباً و نظام بأسسه و زمن بأفكاره فالكل لديه القدرة على التواصل مع عصره فتظل تجربة ما تؤثر فيه و شخص ما يقدره لكن لا يحيا في عصر آخر و رؤية أخرى و مكان ىخر ، الناصريون مشكلة حقيقية للمجتمع المدني المصري بتركيبتهم الحالية المستمرة فهم لا يملكون برنامج حقيقي مناسب للزمان بل يملكون الماضي وحده فقط ليقدموه لنا ساخناً بكل عداواته و مشكلاته بل و رؤيته الزمنية و لنا تخيل شخص في 2013 يقوم بتقدير حساباته بأدوات عام 1963 إبان الحرب الباردة تخيلوا كم النكت السياسية التي سنسمعها !
* اخيراً أؤكد أن السلفيين ليسوا السلفيين الاصوليين فقط بل هم السلفيين من كل ملة و إتجاة فالسلفي الناصري نسخة من السلفي الاسلامي فالاثنين لهما دوجما معينة يقدسوها و لهم رجل معين يرقصون حوله و تجربة معينة يحتفون بها و على أساسها يكون التقسيم و التحليل فلا فارق بين رجل يؤمن بالفسطاطين و بين رجل يصر على فكرة القطبين في تحليلاتهما و لا فارق بين شيخ يهز عصاه و هو يصيح في أوباما أمير الروم و بين رجل يرتدي بدلة بأكمام قصيرة و يشرب فودكا قبل ندوة بحثية ليتحدث طروباً -حدث بالفعل في ندوة نوفمبر بصالون د. مراد وهبة- الاثنين سلفيين الاثنين مشكلة حقيقية و الاثنين بحاجة للتنظيف العقلي.
و الآن هل يحدث التنظيف؟
في الانتظار..
تعليق واحد على في حتمية تنظيف العقل الناصري 2013
عظيم جدًا جدًا… أعتقد أنك قلت كل المفيد يا محمود… بعضهم سلفيون فعلًا…
الأزمة أن مشكلتنا الحالية مع السلفيين الحقيقيين… نخلصها، بعدين نفضى للناصريين.