حاول الفكر الإنساني علي مدي عصوره أن يفلسف التاريخ صانعا له مسارات وهمية و مجبره على السير وفق قوانين مصطنعة ، متقدما تاره و متراجعا تارة أخرى، ناسخا ذاته، سائرا في دوائر ، صاعدا لمنحنيات أو هابطا منها. و الحق أن التاريخ يستعصي علي كل قالب و ينفر من كل قانون و يسخر من كل محاوله لتقييده في مسار فلسفي واهم. و الإنسان ينسى أنه “عارض” في تاريخ الكون، سطر واحدا في سفره الضخم فعمره على الإرض قصير إذا ما قورن بعمر الكون ، و عمر حضارته ـ المشكوك فيها! ـ أقصر كثيرا. فالإنسان كما يقول “فوكو” إختراع حديث بدأ العالم بدونه و سينتهي بدونه. و التاريخ لا غايه له و لا هدف يصيبه، و لا يختبأ خلفه جوهر أو يحركه قانون،إنه سلسلة من الصدف لا ضرورة لها بل كان من الممكن تجنبها أو استبدالها.
في أحدث أفلام “تارانتينو” “Inglorious Basterds“ الذي تم عرضه في المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” السينمائي الدولي لعام ٢٠٠٩ يقف “تارنتيونو” Quentin Tarantino موقف الفنان الحقيقي الذي يؤمن بالفن كمرادف لرؤية خاصة للعالم، مفارقة للوقائع في حالتها الباردة الباديه عليها و محلقة بها إلي أفق أرحب تتيح لها إمكانات لا نهائية للتمثل و ديناميكية حرة مستمرة لا يلزمها المنطق ، يسخر”تارنتينو ” من الثابت، يسخر من التاريخ و يجرده من قداسته، يخلط الزيف بالحقيقه، فيبدو الزيف أكثر صدقا أو تصبح الحقيقة مجرد فرضا، إمكانيه من ضمن ممكنات عدة، لا قيمة لها في ذاتها، و لم تسد على غيرها إلا لأن الصدفة حكمت بذلك.
يقدم “تارنتينو ” فيلم تاريخي، و لكنه لا يذهب إلي التاريخ و لا يهمه ما قالت كتبه، إنه يستدعي التاريخ إليه، يعرضه علي قلبه الشاعر و عقله الموهوب، يجوب به أرجاء عالمه بكل ما فيه من هواجس و مخاوف و جنون. و بدلا من أن يعيده علينا تذكيرا لنا أو وعظا نمصمص له الشفاه، يصفعه، يمارس حق الفنان في أن يسخر منه و يضحك عليه، بل في أن يبصق في وجه، و تكون البصقة ماء النار التي تذوب فيها ثوابته و مقداساته .
و التاريخ صناعته الأسطورة. و حقائقة ألعوبة الأهواء الدينية و السياسية و النفسية، فكتبه سجلات للاوعي الشعوب و أضغاث أحلامهم قبل أن تكون سجلات لما مروا به بالفعل من خطوب و وقائع ، و الأوغاد الشائنون هم أبطال “تاراتينو ” الحقيقيون ، عفويون ، دموييون ، سفلة و إنسانيون في الوقت ذاته ، يرفعون تيجان التاريخ عن رؤوس أبطاله المزيفين و يفضحون مجرميه الذين تخفوا في أردية الأكاذيب الإعلاميه مثلما كانوا يجمعون فروات رؤوس من يقتلونهم من النازيين ، أو يوسمونهم فوق رؤرسهم بصليب معقوف فلا يستطيعون بعد ذلك أن يخدعوا أحدا، مدعيين البطولة متخفيين من عارهم متنصلين من جرمهم.
لقد أراد “تارنتينو” تحطيم “الحقيقة التاريخية ” فقد أبى لها أن تتحطم إلا فوق أبطالها، أبطال التاريخ الذين هم في أغلب الأحيان جبناءه الذين صنعتهم صدف مجنونة و ظروف لا دخل لهم بها جعلتهم في واجه الأحداث و فوق أعناق الجماهير ،أسمائهم في الأفواه و ذكراهم في العقول و سيرتهم في الكتب و بقى الأبطال الحقيقين متوارين في الظلال ، من حسن بطولتهم أن الشهرة لا تعنيهم بل ربما زيفت سيرتهم ، ففي إحدي المشاهد يتعجب الكولنيل النازي “هانس لاندا ” ( كرستوفر فالتس ) كيف أن أحد أعضاء فريق “الأوغاد ” طويل القامة مع أنه اسم شهرته the little man .
يستحضر “تارنتينو” في فيلمه الحرب العالمية الثانيه ، و ينهيها في مكانه المفضل، في قاعه عرض سينمائية باريسية وقت الاحتلال الألماني لفرنسا، قدرت لها الصدفة العجيبة أن تستضيف رؤوس النازية لتحترق بهم جميعا. و هو يبقي على أبطال الحرب جميعهم ـ أو مجرميها ـ “هتلر” و” جوبلز” و “جورينج ” و ” بورمان ” ، يأتي بهم جميعا إلي عالمه الخلاق، ثم يعيد خلق التاريخ على هواه، مخلوق جديد لا ينتمي للواقع بحال، مطبوع بروح خالقه المبدع في كل ملامحه، عشقه لهيتشكوك Hitchcock، للسينما الألمانيه التعبيرية في العشرينيات، لبابست Pabst و ريفنشتال Riefenstahl، لأفلام الحرب و أفلام الويسترن Westerns ، للنساء القويات الجميلات ذوات الإشعاع الكاريزمي و الولع بالثرثرة و الحوارات الطويلة الذكية و المرح الدموي المجنون. فالفيلم إن جاز التعبير “تارنترة ” للتاريخ، فيلم تتكثف فيه طموحات صانعه في الحكي و الرؤية لتبلغ أقصاها منذ أن بدأ مشواره السينمائي الناجح في بداية التسعينات و العامر بالجوائز و التقديرات.
و هذا المقال ليس نقدا للفيلم بقدر ما هو إشارة إصبع ، نافذه لا تغني عن مشاهدته، فهو فيلم يستحق المشاهدة ، و ربما لأكثر من مرة فالمتعة مكفولة على كل حال ، و هو أكبر من الأوسكار التي رشح لها بين عدد من الأفلام الضعيفة ثم لم يفز بها و إن كان الممثل النمساوي “كريستوفر فالتس” قد حصل علي جائزة احسن ممثل مساعد، بجدارة لم يكن الجدال عليها ممكنا.
تعليق واحد على أوغاد شائنون (Inglorious Basterds ) لتارنتينو … الزيف يصنع التاريخ !
أهلًا وسهلًا أستاذ أحمد…
لقد استمتعت بهذه المقالة، أو هذا التحليل أيم استمتاع… ولكني أعتقد أن هذه المقالة الرائعة، إلى جانب عشرات، لا تفي إبداع تارانتينو حقه! فهو مبدع بقسوة، وأنت أبدعت في وصف إبداعه حقيقةً…
المفارقة الطريفة، أن الأستاذ عبدالله البياري، والمقيم في فرنسا، قد كتب عن الفيلم على هذا الموقع منذ شهرين، هنا:
http://www.mideastyouth.com/ar/?p=1011
وبهذا يكون اثنان، من فرنسا وألمانيا، قد كتبا عن الفيلم الذي تدور أحداثه في فرنسا من خلال أبطال ألمان!
لقد رأيت الفيلم، واستمتعت “بتارنترة” التاريخ بشكل مذهل، كما يحلو لكوينتين!
وبالتأكيد كريستوفر فالتس، هذا الممثل الذي اكتشفه تارانتينو حيث لم يكن قد مثّل قبلذاك كثيرًا، عبقري بشكل كبير ولاشك! ويستحق الأوسكار للسنين العشر القادمة!
أعجبني تمامًا وصفك للفن على أنه “رؤية خاصة للفنان الحقيقي للعالم.”
هذا تمامًا ما فعله تارانتينو بالتاريخ، وبنا على الأرجح! إنه أبدع ومزج وشكّل وحلل وربط، وحتى لم تسلُم قواعد اللغة الإنكليزية من إبداع تارانتينو، فقد غيّرها، مكمّلًا سخريته من كل شيء، من العالم والتاريخ وأبطال التاريخ أنفسهم، واللغة… لقد “حطّم” تارانتينو التاريخ، كما ذكرت أنت، في هذا الفيلم، وأعاد إنتاجه وصياغته في مكانه المفضل، دور عرض سينما!
إن الملاصقة النصيّة للتاريخ قد يكون إبداعًا في حد ذاته، في التمثيل والإخراج، ولنسمّي هذه المرحلة أ… أمّا الاستلهام من التاريخ لكتابة أو إخراج نص قريب، فهي إبداع مُستلهم، ولندعوها المرحلة ب… أما مزج الاثنين معًا، المرحلة ج، والتي كتبها وأخرجها تارانتينو بحرفية بالغة هي حقًا قمة في الإبداع، لأنه صدم حواسنا بين تسلسل تاريخي وتسلسل وهمي، وكان تداخلهم مزيجًا لا يعوزه انسجام، مما آثار في نفوس الجميع الدهشة… وممكن الصدمة… الصدمة من هذه القطعة الفنية الإبداعية، التي لا تخلو من كوميديا سوداء!
أشكرك على هذا النقد الواعي… وياريت تتحفنا بالمزيد!
تحياتي!