يبدو أن الشعوب العربية وبعد أكثر من نصف قرن من مايعرف بثورات التحرر من الاستعمار قد فشلت ليس فقط في تحقيق الدولة الديموقراطية الحديثة بل إن الأخطر من ذلك هو فشلها حتي في تشكيل وعي جماهيري قادر علي استيعاب معنى المصطلح و شروط تطبيقه، بدلا من أن تصبح الديموقراطية مجرد كلمة حمالة لوجوه و معان٫ تلوكها الألسن في السراء و الضراء ولا تستطيع العقول استيعابها و بالتالي يصبح إرساء قواعدها وشروطها في المجتمع محض من الخيال ..
في الشهور الأخيرة تصاعدالحديث في مصر حول الانتخابات الرئاسية القادمة وما الذي سوف تؤول له، حيث تنتهي دستوريا مدة رئاسة الرئيس مبارك (٨١ عاما) و لا يصلح تجديدها لفترة أخرى، واحتدم النقاش حول إذا ما كان الحزب الوطنى سيقدم علي ترشيح جمال مبارك أو بمعنى أصح توريث الحكم لنجل الرئيس، والحق يقال فقد نجح نظام مبارك في أن يمسك بخيوط اللعبة السياسية كاملة وأن يجعل من قيادتة الحديدية “روما” التي تؤدي كل الطرق إليها، يسيرة ممهدة، لا يقطعها عائق شجب أو اعتراض، فكل أصوات المعارضة تذهب سدى أمام هول النظام الشمولي العتيد، إن لم تقطع حناجرها قبل أن تعلو بالاعتراض أصلا!
وتخبط المصريون في غمرة النقاشات والتكنهات يحلمون بالفارس الأسطوري الذي سيلقيه القدر، متمشقا سيفه فوق حصانه الأبيض ، ليخلصهم وربما الشعوب العربية الأخرى من حولهم من المعاناة تحت الفقر والفساد والتخلف، معاناة كانت أبدية كأحد نواميس الكون، ثم اتضح فجأة أنها ليست كذلك وأن طلوع الشمس على بر مصر ليس كطلوعها من المغرب ولكن علي أحدهم أن يشعلها أولا!
وتعددت صور الفرسان وتراشقت أسمائهم ، عمرو موسى، محمد البرادعي، أسامة الغزالي حرب، بل إن إسم “جمال مبارك” كان مطروحا على المستوى الشعبي كذلك بالرغم من أنه يمثل النظام في أكثر صوره تبجحا وعتوا، فهناك أصوات رأت فيه مؤهلات لم تتوافر لأحد غيره ، فهو “ابن عز “، من “بيت سياسي” ورث الحكمة عن أبيه و حاشيته فلماذا لا يرث البلاد بمن عليها أيضا ويا دار لا أدخل الله عليك شرا ؟!
بل أن رجل دين في حجم البابا شنوده تكلم و كأنه فوق برج بابل و قد جمعت له ألسنة أقباط مصر بطولها وعرضها معلنا تأيدهم لجمال مبارك باعتباره “أفضل من يحكم مصر في المستقبل “(المصري اليوم ٢٨/٧-٢٠/٨-٢٠/١٠/٢٠٠٩) ليكون المجد له، و على الأرض الخراب، وبالناس المذلة !
و باستثناء طرح “جمال مبارك” الذي هو ليس إلا إمتدادا لتقليد مهادنة النظام إما طمعا في وعيده أو خوفا من تهديده أو هو مساومة سياسية أو قراءة تخمينية برجماتية للمستقبل .. بغض النظر عن هذا الطرح كانت للأسماء الأخرى سمة مميزة ، فجميعها كانت لشخصيات “كاريزمية ” بشكل أو بأخر، اكتسبت شعبيتها إما بمواقفها العنترية (عمرو موسى) أو بمحاولاتها السابقة- والفاشلة – في تكوين نواة لمعارضة حقيقية (أيمن نور) أو عن طريق سمعتها في المحافل الدولية حتي لو كانت خارج الفضاء السياسي في مصر (محمد البرادعي) أو لا علاقه لها بالسياسة علي الإطلاق (أحمد زويل).
كل هذه الشخصيات علي إختلافها وتعدد إنتمائتها وخلفياتها السياسية أو اللاسياسية يجمعها ماتتمتع به من “الكاريزما”، وذلك أهم ما يؤهلها عند المصريين لتحظى بشرف ذلك المنصب الرفيع، فالمصريون يبحثون عن بطل له طعم الأسطورة تتجسد فيه أحلامهم الضائعة و أمالهم المكبوتة، بطل يعيد الدماء إلى العروق الوطنية والقومية، يجدد بفرادة شخصيته المقدامة هواء أجواء اليأس العطنه، ويضرب بقدمه الأرض فتنفجر من تحته الخيرات والثروات أنهارا، مسيح يقدم نفسه فداءا لخلاص شعب طالت معاناته.
وهم ينسون أن الديموقراطية لا يجلبها مسيح من السماء أو تنشق الأرض عنها. إن الديموقراطية ثقافة، بناء لابد له من قاعدة وأساس وإلا تهاوى في غمضة عين كأنه لم يكن. وهي وعي جماهيري لا يفرض بإرادة فوقية أو بسن القوانين، فالقوانين تحمي الديموقراطية ولا تصنعها، والديموقراطية لا تدين بالفضل لأشخاص، فالحاكم لا معنى له سوى أنه ممثل لإرادة العموم و منفذ للدستور والقوانين التي تراضى المجتمع أن يمتثل لها للحفاظ على على تماسكه والتوفيق بين مصالح أفراده بحيث تبقى على كل حال حقوق الأقليات محفوظة. فالحاكم في ظل الديموقراطية موظف في أعلى هرم الدولة الإداري، لا قيمة له في ذاته، ولا لمزاياه الأخلاقية أو الشخصية إلا ما يخص منها الجانب الإجرائي الوظيفي .
و في القرن السادس عشر أثار “مكيافيلي” (١٤٦٩-١٥٢٧) كبرى الثورات السياسية في عصر النهضة حين فصل الأخلاق عن السياسة والدولة عن شخصية الحاكم، ورغم أنه لم يكن بالطبع يقصد خدمة الفكرة الديموقراطية -التي لم تكن قد صيغت سياسيا في زمانه بعد- بل ربما العكس تماما، ولكنه و آن لم يستخدم كلمة “الدولة “بمعناها الحديث، أي سلطة إقليمية علمانية تدوم وتبقى برغم تغير الحكومات المفردة، ولا تكون مبراراتها الإرادة الألهية وهي الفكرة التي سادت الأنظمة السياسية في عصره وحتى لو كان “مكيافيلي” قد استخلص من تحليلاته نتائج تخدم الاستبداد واستبدل بالإرادة الألهية إرادة القوة فقد فتح فهمه العلمي والموضوعي للسياسة وفصله بين الحاكم والدولة الطريق لصياغة الديمواقراطية السياسية القائمة علي إلإرادة الشعبية .
والدولة الديموقراطية، هي دولة مؤسسات تنظم و تدار ذاتيا، وتجمع فئات مختلفة من العناصر الشعبية، فيكون لها سلطة التوجيه والنقد للأحزاب ومحاسبة الحكومة والضغط عليها، إنها مصدر ما يعرف بالرأي العام، و وظيفة الرأي العام ليست التهليل للحاكم ولكنها محاسبة حكومته وتقويمها، أو المطالبة باستبدالها إذا ما لزم الأمر . وكلما قوت المؤسسات المدنية و تعددت أطيافها ومستوايتها ازدادت الديموقراطية استقرار و رسوخا و ضاقت الفرصة على كل من توسوس له نفسه الإنفراد بالسلطة أو إستغلالها في خدمة مصلحته الشخصية أو مصلحة طبقته .
والأزمة في مصر ليست في من يخلف “مبارك “، ولكنها في غياب “ثقافة الديموقراطية” صحيح أن الحكومات الإستبدادية المتعاقبة علي الحكم في مصر لم توفر جهدا في تضييق الخناق على كل محاولة لبناء وعي ديموقراطي سليم ولكن هذا لا يمنع أن معظم هذه المحاولات نفسها كانت ضعيفة، يحمل معظمها بذور موتها فيها، تنقصها القاعدة الشعبية وبالتالي شجاعة خوض المعركة مع النظام ، صحيح أن النظام قد وضع كل العوائق أمام مؤسسات المجتمع المدني والعمل الحزبي، و لكن هذه المؤسسات نفسها لم تكن لتحدث تغييرا يذكر والأحزاب السياسية هي في الأساس أجساد هامدة خاوية من المحتوى السياسي، فلم يكن من النظام الحاكم إلا أنه استمر في ترسيخ حكمه، فاسدا، منتهكا لحقوق الإنسان و ممشطا ما تبقى من معارضة .
والمراقب للمجتمع المصري وطريقه تنظيمه يستطيع أن يلمس روح البطريركية السائدة في إدارة مؤسساته من أصغر وحداتها وهي الأسرة المصرية وحتى المدرسة والجامعة ثم الحزب السياسي، فالممارسة الديموقراطية تغيب في الواقع غيابا يكاد يكون تاما، بل أن الكثير من الممارسات المنتهكة لحقوق الإنسان تقابل بتأييد شعبي أو صمت محايد،هذاغير الكثير من المممارسات الطائفية والحساسية تجاه النقد و تفشي ثقافة الغلق و المصادرة والخوف من التغير والتمسك بالدوجما ومقاومة المشاركة الفعلية في صنع القرار والمناقشة الحرة والسلبية تجاه الظلم مما أدى لاستمرار استغلال السلطة على مختلف المستويات.
واليوم يظن المصري أن في خليفة مبارك حل المأساه، ويبحث عن الفرد المميز ليقود القافلة بما تحويها، مفترضا فيه حسن النية وروح العدالة، ثم تاركا له المنبر لتتحقق علي يدية المعجزات و هو ما لن يكون، فكل سلطة مفسدة، إن لم يقف لهاالرأي العام بالمرصاد، وفي السياسة لا وجود للمسيح ولا لعصا موسى !
2 تعليقات على مطلوب مسيح للرئاسة! .. أزمة الديموقراطية في مصر
أهلًا وسهلًا بك أستاذ أحمد على صفحات شبكة شباب الشرق الأوسط…
أتفق معك في روح المقالة، أنه لا وجود لعيسى أو عصا موسى السحرية في السياسية؛ لأن السياسة كلها قذارة وخداع ونفاق وتشهير.
ولكن على الجانب الآخر، لا أتفق معك بشأن الأسماء المطروحة وبقوة على السحة في الفترة الأخيرة، أقصد دكتور البرادعي خصيصًا، وهذا ليس حجرًا مني على التغيير، فأنا أتوق للتغيير، ولكن للأفضل ولا شك!
ودكتور البرادعي، مع احترامي لشخصه كدبلوماسي عالمي، ليس مؤهلًا حتى الآن لقيادة هذا المنصب، فهو لا يملك أي رؤية سياسية، ولا لديه خطة واضحة، ولا حتى ينتمي لحزب سياسي أو فكر أيديلوجي! واللي ماسك العصاية من النص ده دايمًا، وعايش دور الحيادية، بيكون كذاب!
هو اكتفى، حتى الآن، بلقائين على دريم، وبتصريحات مشتتة، تفتقر للتناغم، واكتفى بأ، يصرّح أنه يصبو لاقتصاد سكندنافيان…
يا سيّدي، الدنيا ليست بالكلام والوعود! وأنا مش شايف أي خطوة إيجابية من البرادعي نفسه حتى الآن، تفيد أنه لديه نية واضحة للترشح لرئاسة الجمهورية المصرية، خاصةً مع الشروط المجحفة للترشح، وهي بقاء العضو لمدة سنة على الأقل في الهيئة العليا للحزب.
وأي متابع يمكن له أن ينتقد الوضع بنفس الكلمات التي صرح بها البرادعي… الرجل مجابش الديب من ديله يعني! كل اللي عايز أقوله، مش عايزين نحلم بوهم ونسك فيه، اللي هو الدكتور البرادعي، ونعظمله وننفخه… وهو ذات نفسه لا يتخذ نفس الخطوات، التي نتخذها على المستولا الشعبي، على المستوى العملي.
أتمنى أن تكون وجهة نظري وصلت لكم…
عزيزي أحمد زيدان ،
اشكرك علي مداخلتك و يسعذني و يشرفني الكتابه في شبكة الشرق الأوسط. و الحقيقة أنا اتفق تماما مع رأيك ، فالأسماء التي ذكرتها هي عددا من الأسماء التي طرحت على الساحة في الفترة الأخيرة مع أسماء أخرى عديدة لا خبرة لها بالحياة السياسية أو الحزبية بالمرة ، و لكن طرحها المكثف إن دل على شيء فهو الفراغ السياسي و غياب الوعي بأبجديات العملية الديموقراطية و بطبيعة العمل السياسي ، و هو من ناحية أخري دلالة خطيرة علي موت العمل الحزبي و على أن أحزاب المعارضه ما هي إلا هياكل فارغة لا معنى لها و لا وجود فاعل أو صدي عند الجمهور .