
د. ليونارد پيكوف، مؤلف هذه المقالة
نشرت أصلاً في “المتوازيات المشؤومة” (بلوم للكتب، 1997)
إن نظاماً كاملاً للفلسفة التي تدعو إلى التعقل والأنوية قد تم تعريفه في عصرنا على يد آين راند. أعني فلسفة الموضوعانية، التي عرضت بالتفصيل في “أطلس مستهجن”، “مقدمة لنظرية المعرفة الموضوعانية”، و “فضيلة الأنانية”. وهي الترياق للحالة الراهنة في العالم. (جميع الاقتباسات اللاحقة، إلا إن أشير لغير ذلك، هي من أعمال آين راند.)
معظم الفلاسفة قد تركوا نقاط انطلاقهم إلى متضمنات غير معروفة. ولكن قاعدة الموضوعانية صريحة جداً: “الوجود موجود، وفعل الفهم والاستيعاب لهذه العبارة يتضمن بديهيتين نتيجتين: أن ثمَّ شيئا يتصوره شخص، وأن ثمَّ شخصاً موجوداً يمتلك الوعي، حيث أن الوعي هو وسيلة إدراك ما يوجد حاليا”.
إن الوجود والوعي هي حقائق ضمنية في كل إدراك. وهما قاعدة لجميع المعارف (واشتراط للبرهان) : فالمعرفة تفترض أن شيئاً سيُعرف وشخصاً ليَعرفه. وهي مطلقات لا يمكن التشكيك أو الهرب منها: فكل تلفّظ إنساني، بما في ذلك نكران هذه البديهيات، يتضمن استخدامها والقبول بها.
البديهية الثالثة في قاعدة المعرفة – وهي بديهية صحيحة ، بكلمات أرسطو، “للوجود بما هو وجود” – هي قانون الهوية. هذا القانون يحدد جوهر الوجود: أن تكون هو أن تكون شيئاً ما ، والشيء هو ما هو، وهذا يؤدي إلى المبدأ الأساسي لكل الأفعال، قانون السببية. قانون السببية ينص على أن أفعال شيء ما تتحدد لا بالصدفة، ولكن بطبيعته ، أي: ما هو عليه.
ومن المهم أن نلاحظ العلاقة المتبادلة بين هذه البديهيات الثلاثة. فالوجود هو البديهية الأولى. الكون موجود مستقلاً عن الوعي. الإنسان يقدر على تكييف خلفيته لاحتياجاته الخاصة ، ولكن “الطبيعة، لكي تُقاد، يجب أن تُطاع” (فرانسيس بيكون). ما من عملية عقلية يمكنها أن تغير قوانين الطبيعة أو تمحو الحقائق. إذ وظيفة الوعي ليست خلق الواقع ، ولكن تفهُّمه. “الوجود هو الهوية ، والوعي هو تحديد الهوية”.
إن المصدر الفلسفي لوجهة النظر هذه، والداعي الأكبر لها في تاريخ الفلسفة هو أرسطو. ومعارضوها هم جميع التقاليد الرئيسة الأخرى، بما في ذلك الأفلاطونية والمسيحية والمثالية الألمانية. مباشرة أو غير مباشرة ، فهذه التقاليد تدعم فكرة أن الوعي هو خالق الواقع. وجوهر هذا المفهوم هو إنكار بديهية أن الوجود موجود.
في النسخة الدينية، يدعم المنكرون دعوةً إلى وعي “فوق” طبيعي، أي متفوق، ومتناقض، مع الوجود؛ وفي النسخة الاجتماعية، يذيبون الطبيعة إلى ضبابية غير محددة، ويعطونها شبهَ شكلٍ عابراً وفق رغبة الإنسان. المدرسة الأولى تنفي الواقع من خلال التمسك بهما معاً (أي الواقع والوعي الفائق). والمدرسة الثانية تستغني عن مفهوم الواقع بذلك النحو. الأولى ترفض العلم، القانون، العلاقة السببية، والهوية ، زاعمة أن كل شيء ممكن لإرادة الرب، كلية القدرة وصانعة المعجزات. وتنص الثانية على ذات الرفض الديني بألفاظ علمانية، بدعوى أن كل شيء ممكن لإرادة “الشعب”.
أي من المدرستين لا تستطيع أن تطالب بقاعدة من الأدلة الموضوعية. فلا توجد طريقة للتفكير انطلاقاً من الطبيعة إلى نقيضها ، أو من الحقائق إلى تخريبها، أو من أي فرضية إلى محو النقاش على هذا النحو ، أي بدءاً من أسسه: متمثلة ببديهيات الوجود والهوية.
الميتافيزيقا ونظرية المعرفة مترابطان ترابطا وثيقا؛ وهما يشكلان معاً الأساس للفلسفة. في تاريخ الفلسفة، رفض الواقع ورفض التعقل كانا متلازمين دوماً. وبالمثل، كما يشير مثال أرسطو، ميتافيزيقا موالية للواقع تعني وتتطلب نظرية معرفة موالية للتعقل.
والتعقل كما تعرفه آين راند هو “القدرة التي تحدد وتدمج المواد التي توفرها حواس الإنسان”.
التعقل يؤدي هذه الوظيفة من خلال المفاهيم، وصحة التعقل تعتمد على صحة المفاهيم. ولكن طبيعة وأصل المفاهيم هي مشكلة رئيسة للفلسفة. إذا كانت المفاهيم تشير إلى وقائع ، فإن المعرفة لديها قاعدة في الواقع، ويمكن للمرء أن تحدد أسس موضوعية لتوجيه عملية الإدراك الإنسانية. وإذا كانت المفاهيم معزولة عن الواقع، فحتى ذلك الحين يصبح الإنسان وجميع معارفه، أعمى بلا حول.
وهذه هي “مشكلة الكليات”، التي تعثرت فيها الفلسفة الغربية.
ادعى أفلاطون العثور على مرجع للمفاهيم ليس في هذا العالم ، ولكن في بعد فوق-طبيعي من الجواهر. والكانطيون يعتبرون المفاهيم (بعضها أو كلها) خلواً من المرجعيات، أي: كإبداعات ذاتية للعقل البشري مستقلة عن الحقائق الخارجية. كلا النهجين ، وكل تنوعاتهما في تاريخ الفلسفة يؤديان إلى نفس النتيجة الأساسية: قطع أدوات إدراك الإنسان عن الواقع، وبالتالي إضعاف عقل الإنسان. (على الرغم من أن نظرية المعرفة الأرسطية أعلى بكثير ، ولكن نظريته عن المفاهيم اختلطت ببقايا الأفلاطونية وهي غير مقبولة.) أما الفلاسفة الحديثون فقد تخلوا عن المشكلة، وكنتيجة لذلك ، تخلوا عن الفلسفة على هذا النحو.
أما آين راند، فتتحدى وتكتسح الحصن الرئيسي للمحور الضد-عقلي. وإنجازها التاريخي هو ربط شكل الإدراك الإنساني المميز بالواقعة، أي: تفعيل تعقّل الإنسان.
وفقا للموضوعانية، فالمفاهيم تستمد من وتشير إلى حقائق الواقع.
العقل عند الولادة (كما ذكر أرسطو أول مرة) هو لوح أبيض؛ لا توجد أفكار فطرية. والحواس هي وسيلة الإنسان الرئيسة للاتصال بالواقع؛ وهي تعطيه اشتراطاً لكل معرفة لاحقة، ودليلا على أن ثمة شيء. ماهية الشيء هي ما يكتشفه على المستوى المفاهيمي للوعي.
تشكيل الأفكار هو طريقة الإنسان في تنظيم المواد الحسية. لتشكيل مفهوم، يعزل المرء كتلتين أو أكثر عن سائر مجاله الإدراكي، ويدمجهما في وحدة عقلية واحدة، يرمز إليها بكلمة واحدة. المفهوم يستوعب عدداً غير محدود من الحالات: واحدة للكتل التي عزلها، وكل الأخريات (في الماضي والحاضر والمستقبل) هي التي تشابهها.
التشابه هو مفتاح هذه العملية. يمكن للعقل أن يحتفظ بخصائص الكتل المماثلة دون تحديد قياساتها التي تختلف من حالة إلى حالة. “المفهوم هو التكامل العقلي لاثنين أو أكثر من الوحدات التي تمتلك نفس الخاصيـ(ات) المميزة، مع حذف قياساتها المحددة”.
المبدأ الأساسي لتشكيل المفاهيم (الذي ينص على أن القياسات المحذوفة يجب أن يكون موجودا في كمية ما، ولكن يمكن أن توجد في أي كمية) هو المعادل للمبدأ الأساس للجبر ، الذي ينص على أن الرموز الجبرية يجب أن تعطى قيمة عددية ما، ولكن يمكن إعطاءها أي قيمة. في هذا المعنى والاعتبار، الوعي الإدراكي هو الحساب، ولكن الوعي المفاهيمي هو الجبر للإدراك.
المفاهيم ليست ذاتية ولا فوق–طبيعية: إنها تشير إلى حقائق هذا العالم، كما عالجتها وسيلة إدراك الإنسان. (إن ما سبق هو بيان موجز؛ للمناقشة كاملة راجع “مقدمة إلى نظرية المعرفة الموضوعانية”.)
الحواس، المفاهيم، والمنطق : هذه هي عناصر القدرة العقلية للإنسان – بدءها، شكلها، وأسلوبها. في الجوهر، “اتبع التعقل” يعني: ابنِ المعرفة على الملاحظة؛ شكّل المفاهيم وفقا للعلاقات الحقيقية (القابلة للقياس) بين الكتل؛ استخدم المفاهيم وفقا لقواعد المنطق (في نهاية المطاف، قانون الهوية). لأن كلاً من هذه العناصر مبني على أساس حقائق الواقع، والاستنتاجات التي بتوصل إليها بعملية التعقل هي موضوعية.
والبديل عن السبب هو أحد أشكال التصوف أو التشكك (أي تكافؤ الأدلة).
الصوفي يسعى لمعرفة فوق–طبيعية، والمشكك ينفي إمكانية أي معرفة. يدعي الصوفي أن وسيلة المعرفة الإنسانية غير كافية وأن المعرفة الحقيقية تتطلب نوراً من عند الله؛ المشكك يوافقه، ثم يلقي بالله. الصوفي يتمسك بالمطلقات، التي يدافع عنها بدافع الإيمان؛ والمشكك يجيب بأنه بلا إيمان. إن إيمان الصوفي، في نهاية المطاف، هو في مشاعره، والذي يعتبرها سبيلاً إلى الماوراء، والمشكك يطرح الماوراء، ثم يتبع مشاعره هو التي، كما يقول، هي الأساس الوحيد للعمل في عالم مجهول.
المشاعر هي نتاج أفكار الناس وأحكامهم القِيَمية، التي تعتقد بوعي أو بوعي باطن. وهي ليست أدوات للإدراك أو أدلة للعمل.
أدان متدينو الطراز القديم العقل البشري على أساس أنه محدود، نهائي، وراسخ في الأرض، كضدٍ للعقل الإلهي كلي الكمال بلا مثال. هذا يتضمن هجوماَ على الهوية (كما يفعل أي رفض للنهائي)؛ ولكنه يفعل ذلك تحت غطاء من التأكيد على وعي لهوية أكبر وفوق–طبيعية. أما العدميون الحديثون فهم أكثر وضوحا: إنهم يسعون لا للنهائي، ولكن للصفر. تماما كما يرفضون مفهوم الواقع في الميتافيزيقا، وكذلك يرفضون إمكانية الوعي في نظرية المعرفة.
الإنسان، يقول الكانطيون، لا يمكنه أن يعرف “الأشياء كما هي ،” لان هذه المعرفة تكتسب عن طريق حواس بشرية، مفاهيم بشرية، ومنطق بشري، أي من وسائل المعرفة البشرية.
نفس شكل البرهان قد ينطبق على أي وعي – إنساني، حيواني، أو إلهي (على افتراض وجود هذا الأخير): إن كان هو شيئاَ، إذا كان يقتصر على بعض، أي من، وسائل للمعرفة، بنفس المنطق فهو لن يعرف “الأشياء كما هي”، ولكن فقط “الأشياء كما تبدو” لهذا النوع من الوعي.
يعترض كانط على حقيقة أن عقل الإنسان له طبيعة. نظريته هي : الهوية – جوهر الوجود – تبطل الوعي. أو: وسيلة المعرفة تجعل المعرفة مستحيلة. وكما تشير آين راند ، فهذه النظرية تعني أن “الإنسان أعمى، لأن لديه عيون – أصم، لأن لديه آذان – واهم، لأن لديه عقل – والأشياء التي يدركها غير موجودة، لأنه يدركها”.
تماما كما تسحب عدمية كانط المعرفية بالإدراك بعيداً عن الهوية، كذلك تسحب عدميته الأخلاقية الأخلاق – ميدان القيم – بعيداً عن أي استمتاع بالحياة.
أما الأخلاقيات الموضوعانية فهي عكس كانط. الأخلاقيات الموضوعانية تبدأ بسؤال أساسي: لماذا الأخلاق ضرورية؟
الجواب يكمن في طبيعة الإنسان بوصفه كائناً حياً. على الكائن الحي أن يتصرف في مواجهة خيار ثابت: حياة أو موت. الحياة مشروطة؛ لا يمكن أن يستمر إلا من خلال مسار معين للعمل يقوم به الكائن الحي، مثل أفعال الحصول على الغذاء. وفي هذا الصدد النباتات والحيوانات لا خيار لها: في حدود صلاحياتها ، فإنها تتخذ تلقائياً الإجراءات التي تتطلبها حياتهم. الإنسان يملك الخيار. انه لا يعرف تلقائيا ما هي الإجراءات التي ستحافظ عليه، وإذا كان يريد البقاء فعليه الاكتشاف، ثم الممارسة بالاختيار، لمدونة من القيم والفضائل، المدونة الخاصة التي تقتضيها حياة البشر. الغرض من الأخلاق هو تحديد مثل هذه المدونة.
الموضوعانية هي الفلسفة الأولى التي تحدد العلاقة بين الحياة والقيم الخُلُقية. “الأخلاق” ، تكتب آين راند، “هي هدف، ضرورة وجودية لبقاء الإنسان – لا بفضل الفوق–طبيعي أو جيرانكم أو أهواءك الخاصة، ولكن بفضل الواقع وطبيعة الحياة.”
معيار الأخلاق، كما تتطلبه طبيعة الواقع وطبيعة الإنسان، هو حياة الإنسان. “كل ما هو مناسب لحياة الكائن العاقل هو خير؛ كل ما هو مدمر لها هو شر.”
“عقل الإنسان” ، كما ينص جون غالت، بطل “أطلس مستهجن”
هو أداته الأساسية للبقاء. الحياة أعطيت له، وليس البقاء. جسده أعطي له، وليس قُوتُه. عقله أعطي له، وليس مضمونه. ليبقى على قيد الحياة، عليه أن يعمل، وقبل أن يتمكن من العمل لا بد له أن يعرف طبيعة وغرض هذا العمل. فهو لا يستطيع الحصول على طعامه دون معرفة الغذاء وطريق الحصول عليه. ولا يستطيع حفر خندق – أو بناء سيكلوترون – دون معرفة هدفه ووسيلته لتحقيق ذلك. ليبقى على قيد الحياة، عليه أن يفكر.
التفكير ليس عملية تلقائية. فللإنسان أن تختار بين أن يفكر أو يسمح لعقله بالركود، أو يختار بإرادته أن يتحول ضد ذكائه، يتهرب من علمه، يخرّب عقله. إذا رفض للتفكير ، فهو يأتي بالكوارث: انه لا يملك الحصانة لكي يرفض وسيلة إدراكه للواقع.
التفكير هو عملية حساسة وصعبة، لا يستطيع الإنسان تنفيذها ما لم يكن هدفه المعرفة، ومنهجه المنطق، وحكم عقله هو موجهه المطلق. الفكر يتطلب الأنانية، الأنانية الأساسية للقدرة العقلانية التي لا تدع شيئاً يعلو على سلامة وظيفتها الخاصة.
لا يمكن للإنسان أن يفكر إذا كان يضع شيئاً، أي شيء، فوق تصوره للواقع. إنه لا يستطيع متابعة الأدلة دون كلل أو دعم استنتاجاته بعناد، في حين يلاحظ الامتثال لناس آخرين كدافعه الأخلاقي، والتحقير الذاتي كأعلى فضائله، والتضحية كواجبه الأساسي. لا يمكنه استخدام دماغه بينما يتنازل عن سيادته عليه، أي: حين يتقبل نظرائه كمالكين ونزلاء في دماغه.
الناس يتعلمون من الآخرين، ويبنون على عمل أسلافهم ، ويحققون بالتعاون من المفاخر ما سيكون من مستحيل على جزيرة صحراء. ولكن كل هذه العلاقات الاجتماعية تتطلب ممارسة الوسيلة الإنسانية للادراك ؛ فهي تعتمد على الفرد الانفرادي ، “الانفرادي” في المعنى البدئي والداخلي للمصطلح، بمعنى إنسان يواجه الواقع بشكل مباشر، يسعى لا ليعلق نفسه على صليب الآخرين أو يتقبل كلمتهم كفعل إيمان، ولكن للفهم، للتواصل، للمعرفة.
عقل الإنسان يتطلب الأنانية، وكذلك حياته في كل جانب؛ على الكائن الحي أن يكون المستفيد من أفعاله. عليه أن يلاحق أشياء محددة لأجله، لصالحه، ولبقائه. الحياة تتطلب اكتساب القيم ، لا خسارتها؛ الإنجاز ، لا النكران؛ الحفاظ على النفس، لا التضحية بالنفس. يمكن للإنسان أن تختار تقدير ومواصلة التضحية بالنفس، لكنه لا يستطيع البقاء أو الازدهار بأسلوب كهذا.
الأنانية الأخلاقية لا تعني رخصة للقيام بكل ما يرضي أحداً تقوده النزوات. بل تعني الانضباط الدقيق بتعريف وتحقيق مصلحة الفرد الذاتية العقلانية. أي مدونة للمصلحة الذاتية العقلانية ترفض كل شكل من أشكال التضحية البشرية، سواء من النفس للآخرين، أو من الآخرين للنفس. أخلاقيات المصلحة الذاتية العقلانية تؤيد ممارسة عقل واحد لخدمة حياة واحدة، وجميع خيارات القيم وسمات الشخصية المحددة التي تنطوي عليها ممارسة كهذه. إنها تتمسك بفضائل العقلانية، الاستقلال، النزاهة، الصدق، العدل، الإنتاجية، والفخر. إنها لا تدعو “للبقاء بأي ثمن”.
حياة الإنسان، كما تتطلبها طبيعته، ليست حياة غاشم أرعن، أو حثالة نهّاب أو صوفي شحّات، ولكن حياة كائن مفكّر – لا حياةً عن طريق القوة أو الاحتيال، ولكن الحياة عن طريق الإنجاز – لا البقاء بأي ثمن، لأن هناك ثمناً واحداً فقط يُدفع لبقاء الإنسان: التعقل.
التعقل هو سمة للفرد. الفكر هو عملية لا يقوم بها الناس، بل الإنسان – كمفرد. لا يمكن لأي مجتمع، لجنة ، أو جماعة “عضوية” جماعة أن تفعل ذلك. كل ما يمكن أن تفعله مجموعة في هذا الصدد هو أن: تترك الفرد حراً ليعمل، أو تمنعه.
إن الشرط السياسي الأساسي لحياة الإنسان هو الحرية.
“الحرية” في هذا السياق تعني القدرة على التصرف دون إكراه من الآخرين. تعني قدرة الفرد على التصرف وفقا لحكمه، مع احترام الحق نفسه للآخرين. في مجتمع حر، ينبذ الناس طريقة قاتلة في التعامل مع الخلافات: استهلال القوة المادية.
القوة هي الضد اللفظي والنقيض للفكر. فالفهم لا تنتجه لكمة في الوجه؛ الوضوح الفكري لا ينبثق عن فوهة بندقية؛ وترجيح الأدلة ليس بوساطة تشنجات الإرهاب. العقل هو وسيلة إدراكية؛ لا يمكنه تحقيق المعرفة أو الإدانة بمعزل عن أو ضد تصوره للواقع؛ إذ لا يمكنه أن يكون قسرياً.
النظام السياسي المناسب، في جوهره – النظام الذي يحرس حرية عقل الإنسان – هو النظام الأميركي الأصلي، المبني على مفهوم الحقوق الفردية غير القابلة للتصرف. “إن مصدر حقوق الإنسان ليس القانون الإلهي أو القانون النيابي، ولكن قانون الهوية. ألف هو ألف ، والرجل هو الرجل. الحقوق هي شروط الوجود التي تتطلبها طبيعة الإنسان من أجل البقاء الملائم.”
كان الآباء المؤسسون على حق بشأن حقيقة أن الحقوق سياسية لا اقتصادية، أي أنها قوانين للعمل وللحفاظ على نتائج عمل الفرد، لا مطالبات غير مكتسبة بأعمال أو نتاجات الآخرين. وكانوا على حق حول حقيقة أن وظيفة الحكومة المناسبة هي حماية حقوق الإنسان.
حقوق الإنسان، تلاحظ آين راند، لا يمكن انتهاكها إلا بالقوة البدنية (الاحتيال هو شكل غير مباشر للقوة). وأي نظام سياسي قائم على الاعتراف بالحقوق هو الذي يحرس الإنسان ضد العنف. لذا فالناس لا يتعاملون مع بعضهم كقتلة محتملين، بل كتجار ذوي سيادة، وفقا لأحكامهم المستقلة وموافقتهم الطوعية. هذا النوع من النظام يمثل الحماية المنهجي لعقل الإنسان ولمصلحته الذاتية، أي الوظيفة والغرض التي عليها تعتمد الحياة البشرية.
الحكومة هي الجهة التي تقوم باحتكار الاستخدام القانوني للقوة البدنية. في مجتمع حر الحكومة لا تستعمل القوة إلا في التأديب، ضد أولئك الذين بدءوا باستخدامها. هذا ينطوي على ثلاث وظائف رئيسية هي : الشرطة؛ الجيش؛ والمحاكم (والتي توفر وسيلة لحل المنازعات سلميا ، وفقا لقواعد موضوعية).
إن الحكومة في مجتمع حر ممنوعة من محاكاة المجرمين التي أنشئت للقبض عليهم. فهي ممنوعة من استهلال القوة ضد الناس الأبرياء. ولا يمكنها ضخ قوة التدمير المادي في حيات المواطنين المسالمين، لأجل أي غرض أو في أي مجال للمسعى ، بما في ذلك في مجال الإنتاج والتجارة.
وهذا يعني رفض أي انفصام بين الحرية السياسية والاقتصادية. ويعني الفصل بين الدولة والاقتصاد. هذا يعني البديل الوحيد للاستبداد الذي تم اكتشافه على الإطلاق: رأسمالية دعه يعمل.
تاريخيا، عملت الرأسمالية ببراعة، وهذا هو النظام الوحيد الذي سوف يعمل. أدت الاشتراكية بكل تنويعاتها إلى كارثة، وستؤدي ثانية كلما حاولت. ولكن الاشتراكية هي محط إعجاب معلمي البشرية، في حين أن الرأسمالية هي الملعونة. ومصدر هذا هو عكس لحقيقة أن الحرية أنانية، والحقوق أنانية، والرأسمالية أنانية.
إن صح أن الحرية والحقوق والرأسمالية هي أنانية، فيصح أيضاً أن الأنانية ، معرفةً بشكل لائق، هي الصالحة.
ما من مستقبل للعالم إلا من خلال ولادة جديدة للنهج الأرسطي للفلسفة. وهذا يتطلب تأكيدا أرسطياً لواقعية الوجود، لسيادة العقل، للحياة على الأرض، والعظمة للإنسان.
أرسطو والموضوعانية يتفقان على الأساسيات، ونتيجة لذلك، على هذه النقطة الأخيرة أيضاً. كلاهما يعتقد أن الإنسان يمكنه أن يتعامل مع الواقع، ويحقق القيم، ويعيش دون مأساوية. لا يؤمنان في الإنسان الدودة أو الإنسان الوحش؛ كلاهما يتمسك بالإنسان المفكر، وبالتالي الإنسان البطل. أرسطو يسميه “الرجل عظيم النفس”. آين راند تسميه هوارد روارك، أو جون غالت.
في كل عصر ، بحكم طبيعتهم، على الناس أن يكافحوا: يجب أن يعملوا، بعلم أو بدونه، لتفعيل رؤية ما للإمكانات البشرية، سواء كانت متناسقة أو متناقضة، متعالية أو وضيعة. يجب عليهم، في نهاية المطاف، صنع خيار أساسي، يحدد خياراتهم الأخرى ومصيرهم. الخيار الأساسي ، وهو نفسه دائماً، هو الخيار المعرفي: التعقل أو اللاتعقل.
بما أن فهم الناس للتعقل ونسخهم عن اللاتعقل تختلف من عصر لعصر، وفقا لمدى معرفتهم وفضيلتهم، فكذلك الشكل المحدد للاختيار، ونتيجته المحددة.
في العالم القديم ، بعد قرون من الانحطاط التدريجي، كان الخيار هو أفكار الحضارة الكلاسية أو الأفكار المسيحية. اختار الناسُ المسيحية. وكانت النتيجة هي العصور المظلمة.
في العالم الوسيط، بعد ألف سنة، كان الخيار هو أوغسطين أو الأكويني. اختار الناس الأكويني. وكانت النتيجة هي عصر النهضة.
في العالم المستنير، بعد أربعة قرون لاحقة، تصارع مؤسسي أميركا من أجل التأكيد على خيار أسلافهم النهضويين، لكنهم لم يتمكنوا جعله يتماسك تاريخيا. وكانت النتيجة بلداً جديداً رائعاً، مع مدمر ذاتي مدمج.
اليوم، في الولايات المتحدة، الخيار هو الآباء المؤسسين والأساس الذي لم يتسن لهم ، أو كانط والتخريب. والنتيجة ما زالت مفتوحة.
3 تعليقات على فلسفة الموضوعانية: ملخص وجيز
أعتقد أن الجمل الماضية هي خير ما كُتب على شبكة شباب الشرق الأوسط منذ نشأتها، وأفكر جليًا في أخذ عبارة منهم للموقع ككل، لتوضع تحت مربع التعليقات، أو في صفحة من نحن؟
تحياتي يا حيدر القدير، وأشكرك شكرًا جزيلًا على هذه الترجمة فائقة الروعة التي نقلتها عن خير من فكروا وأبدعوا نهضة جديدة لكل عقول المفكرة: آين راند وتلامذتها، وعلى رأسهم ليونارد بيكوف، مبدع هذه المقالة المستلهمة من الأم راند.
تحياتي الشخصية، ودمت مفكرًا ولامعًا يا حيدر بك السعدي… وفي انتظار ترجمات مشرقة كهذه كما عهدناك دائمًا…
ولك جزيل الشكر مني هنا، ومن جويس آلميرا، وهي موضوعانية مصرية صميمة، على موقع فيسبوك…
دمت بخير…
إن ما تنتهجه آين راند هو تصور فلسفي محض للليبرالية السياسية كما نادى بها آباؤها المؤسسون مثل ميل وهيوم وبنتام وآدم سميث. وتلك الوجهة من النظر قائمة على مذهب المنفعة والمصلحة الفردية في إطار إعلاء قيمة الفردية. وقد حاول جون رولز أن يبني نظرية للعدالة الاجتماعية قائمة على أن الأفراد في المجتمع يجمع بينهم صفات مشتركة وبالتالي فمن الأفضل تحقيق التعاون بدلا من الصراع والمنافسة التي تسيطر على التوجة الاقتصادي لدى المجتمعات الليبرالية. وتعد نظريته حول العدالة هي مثال للعدالة الاجتماعية من خلال توزيع خيرات المجتمع من خلال ما أقره أفراد المجتمع ذاته عندما حددوا مبدئي العدالة التي تضمن الحرية والمساواة في الاختلاف.
انا مش مصدق ان فيه محتوي عربي بالدقة والرقي ده