بعيدا عن حديث المعجزات والخوارق ، سنحاول ان نلقى نظرة نقدية عن الظرف الموضوعى والواقع الارضى ( العلاقة الجدلية ) والمراحل التطورية الطبيعية لام القرى ( مكة ) مما ادى فى النهاية الى ظهور النبى محمد بدعوته للاسلام لنرى انها لم تكن مفارقة سماوية بقدر ما كانت استجابة للواقع الارضى والظرف الموضوعى الذى انتجها.
سارت مكه فى خطها التطورى الطبيعى ، عين من المياه تتفجر فى صحراء قاحله شديدة الحرارة نظرا للجبال التى تحيطها من معظم جوانبها ، طبيعى ان تستقطب حولها مجموعات من قبائل البدو الرحل ليكونوا اول تجمع بشرى مستقرفى هذه المنطقة ، وان احتفظ بمكوناته القبلية بخلاف التجمعات القروية الاولى حول مجارى الانهارالى اجبرتها ظروف الزراعة على التعاون للبذر والرى والحصاد ، ويأتينا صدى الصراعات القبلية التى دارت حول البئر بين جرهم وخزاعة والعماليق … الخ ، فنقرأه ضمن روايات الاخباريين العرب ثم يتم تدوينه فيما بعد من الاخباريين المسلمين وعلى رأسهم عمدتهم الطبرى ثم ابن كثيرمحاطا بمعجزة البئر وقصه هاجر وابراهيم واسماعيل لتكون العائله الابراهيمية اولا ثم يتفجر البئر( بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ).
يفترض بعض علماء الاجناس ان العنصر السامى خرج من جزيرة العرب الى ماورائها شمالا وجنوبا اثر موجة جفاف تصحرت بعدها هذه الجزيرة بعد ان كانت منطقة غابات كثيفة ، وفى بحث طويل للباحث اليهودى ايمانويل فلايكوفسكى ( عوالم فى تصادم ، عصور فى فوضى ) مؤيدا بالكثير من الشواهد يقول ان كوكب الزهرة كان مجرد مذنب ضرب الارض مرتين واخرجها عن محورها ( ثم اصبح فيما بعد احد الكواكب التى تدور حول الشمس ) مما ادى الى تصحر جزيرة العرب ، ويعلل وجود البترول فيها الى ان هذا المذنب كان يحمل الكثير من النفط الذى وصل الى الارض وتسرب عبرالتشققات الى باطنها نتيجة هذا الاصطدام ، وتكتسب نظريته قبولا لان العلماء المعاصرين لم يتوصلوا حتى الآن الى كيفيه وجود البترول واسباب وجوده فى اماكن دون اخرى وكيفيه تكوينه ، بالاضافة الى انه فسر ملوحة البحار نتيجة هذا الاصطدام والتى لم يعرف يقينا حتى الآن سبب ملوحتها. ومن جانبى ارى ان هذه المنطقة قد شهدت سقوط احجارا نيزكية بصورة ملحوظة ربما بفعل هذا الصدام .ويؤكد لنا ذلك وجود الكثير من الكعبات فى جزيرة العرب قبل الاسلام كل منهم به حجرا مماثلا ، وقد وضحنا بعض من ذلك فى دراستنا حول : رحلة المراة من التقديس الى التبخيس .
سنتخيل انفسنا جالسين وسط الصحراء فيما قبل الفى عام من الآن ونرى حجرا نيزكيا ساقطا من السماء مشتعلا ومضيئا بسبب احتكاكه بالغلاف الاوكسيجينى للارض ، فمن الطبيعى ان يكون هذا الحجرهابطا من السماء ، وبعد بزوغ فكرة الاله (كما حدث فى باقى انحاء الارض وان كان شكل الاله واختصاصاته فى كل بقعة من هذه البقاع كانت نتاجا للبيئة والظرف الموضوعى ) لم يكن امام هذا البدوى الغارق فى البدائية الا ان يتصور هذا الاله جالسا فى السماء متمثلا كسرى الفرس فى ايوانه وقيصر الروم على عرشه ( يحمله بومئذ ثمانية عشر.. !!) محاطا بالحجاب والخدم والحشم والعبيد وحملة المباخر والمسبحين بعظمته وحمده ، فمن الطبيعى ان يكون هذا الحجر ساقطا من عرش هذا الاله الجالس فى السماء ، ولعدم معرفته بقوانين الكتله والوزن وتأثرها بالرياح ظن ان عرش الاله فوق هذا الحجر مباشرة .
اذن كانت البئر هى بداية التجمع البشرى الاول فى مكه ، وكان الحجر الاسود الهابط على الارض هو قطعه من هذا العرش الذى يعلوه مباشره ،فهو حجر مقدس هابطا من اله مقدس وبالتالى الارض التى هبط عليها هى ارض مقدسه فهى ارض حرام ، ولهذا اقيم لهذا الاله اول معبد والذى اطلق عليه بيت الله الحرام ويحمل لنا القرآن هذه الذكرى الباهته فى قوله( ان اول بيت بنى للناس الذى ببكه مباركا حوله ). ازدهرت التجارة بين اليمن جنوبا والشام شمالا نتيجة انقطاع خط التجارة بين مصر وفارس ـ والتى كانت تمر قوافله بشمال جزيرة العرب ـ بعد احتلال الاسكندر المقدونى لمنطقة الشرق الاوسط وطرد الفرس ، مماساعد على ازدهار مكة ، واصبحت ممرا واستراحة على طريق القوافل تتعييش على قبض العشور من قوافل التجار ، ولترغيب القبائل فى الحج لهذا البيت سمحت لكل قبيله ان تاتى بصنمها او وثنها واصبح فى كعبة مكه 360 صنما ووثنا يمثلون معظم قبائل جزيرة العرب ما بين الحج اليهم او لتقربهم زلفى لرب هذا البيت و ( ليشهدوا منافع لهم ) اذن العبادة والتقرب للالهة ومنافع التجارة ، ولمزيد من الجذب ( السياحى ..!!) بجانب الحج والتجاره يكون توافر المتع الجنسية فيما عرف باصاحاب الرايات الحمر وهى عبارة عن دور للدعارة التى ترفع عليها الرايات الحمراء ارشادا لطالبى اللذة الجنسية سواء من نساء مكيات او من اماء وظفهم سادتهم فى العمل لجنى الارباح ، اى انك فى رحلة واحدة ترضى آلهتك ( بالحج ) وتحقق ارباحا تجاريا ( ليشهدوا منافع لهم ) وتستمع باللهو والخمر والنساء ( يابلاش ….. !! )
ونظرا للصراعات القبيلة المستمرة على عيون الماء ومراعى الكلأ وما تتركه فى نفوس المهزومين من رغبة فى الثار يستمر التقاتل ، ولهذا فالقبائل دائما فى حالة قتال مستمر ، فكان لابد من فترة امان يتم فيها الحج وتمارس فيه التجاره ، فتم الانتقال الى خطوة تطورية اخرى تم تحريم ثلاثة شهور فى العام هى ذى القعده وذو الحجة والمحرم ليتثنى للقبائل حرية التجارة والعبادة وان توضع الحروب بين القبائل اوزارها خلال تلك الشهور.
كانت غزوة ابرهه الحبشى ( 570 م ) لهدم هذا البيت وتحويل الحج الى كنيسة اليمن ( قليس ) وحرمان مكه من مداخيل الحج والتجارة ، ثم تراجع جيشه نتيجة الحرارة الشديدة ومرض الجدرى والحصبة اللذان الما بالجيش ( وفى قول انه مات فى هذه الحمله وقول آخر انه تراجع بجيشه بعد ان هلك معظمه ،وان كنت ارى انه مات فعلا فى هذه الحملة متأثرا بالمرض ، وعندما وجد الجيش نفسه بدون قياده عاد الى اليمن ) كانت فرصه سانحة لاهل مكه لاضفاء مزيدا من القداسة على بيت الله الحرام الذى انهزم ابرهة وجيشة بفعل طير الابابيل التى ارسلها رب البيت لترمى جيش ابرهة بحجارة من سجيل فينسحب منهزما ، وطبعا من السهل فى عصر يبعد عن الاعلام المرئى والمسموع والمقروء باكثر من الفى عام ان يقوم الشعراء المكيين بهذه المهمه ، فتزداد قداسة البيت ويزداد الحجيج وتزداد مداخيل التجارة
وفى خطوة تطورية اخرى بدأت قريش تتاجر باموالها فى قوافل خاصة بها يحرسها العبيد من الاحابيش بدلا من قبض العشور من التجارة المارة بها ، ولتامين طرق تجارتها قامت بعقد المعاهدات ودفع الاموال لتأليف القبائل التى تمر بها قوافلها اتقاءا لعمليات السلب والنهب المشهور بها الاعراب . ويلخص لنا القرآن هذا فى السورة ( ايلاف قريش ايلافهم ).
وبعد اقامة دار الندوة لتقسيم العمل فى خدمة الحجاج والزوار والفصل فى المنازعات بين بطون قريش والقبائل الاخرى ، اصبحت مكة اول حكومة مصغرة فى جزيرةالعرب وليست مجرد حاضرة زراعية كالطائف ويثرب .
اكتمل النضج المكى ، وبزغ نجم كعبتها على ماعداه من كعبات ومحجات العرب المنتشرة فى جزيرتهم ( راجع في ذلك المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام :د. جواد على ج5/ص223،214،215،217). ويقول الهمداني : أن العرب كانت لها محجات متعددة منها بيت اللات وكعبة نجران وكعبة شداد الأيادى وكعبة غطفان، ويذكر أبن الكلبي بيوتاً أخرى كبيت ثقيف. ويشير الزبيدى إلى بيت ذي الخلصة الذي كان يدعى الكعبة اليمانية، ويضيف الدكتور جواد على ، بيوتاً أخرى مثل كعبة ذي الشرى وكان حجها يوم 25 كانون من كل عام ، وكعبة ذي غابة الذي لقبه عباده بــ قدست أي القدسي ، كذلك كان لآلهة الصفويين اللات ، وديان ، وصالح ، ورضا ، ورحيم محجاتها ، كما كانوا يحجون إلى الكعبة المكية ، وبيت اللات في الطائف ،وبيت العزى قرب عرفات وبيت مناة وغيرها كثير.وكان الحج معتاداً في شهر ذي الحجة ).
بعد ان دمر الرومان آخر مابقى من دولة اسرئيل فى العام 70 م تفرق اليهود شمالا وجنوبا وشرقا وغربا ، وفى رحلتهم الى الجنوب حطوا الرحال فى يثرب والتى كانت فيما قبل استراحة على طريق التجاره بين مصر وفارس ، ويبدو ان من سكنها كانوا من المصريين لان اسم يثرب نفسه يحيل الى المصرية ( اثريب ) بالاضافة الى انها واحة زراعية تحتاج الى فلاح اكثر مما تحتاج الى بدوى ، ناهيك عن طباعهم اللينه التى تذكرها لنا كتب التراث والمختلفة عن طباع بدو الجزيرة ، ثم اخيرا استجابتهم لدعوة النبى محمد والترحيب به رغم مالاقاه من قومة من قريش فى مكة .
حط اليهود رحالهم فى يثرب ، وحتى يتقربوا الى اهلها اشاعوها اقوال التوراه فى حكاية الجد الاكبر ابراهيم وابنيه اسحاق الجد الاكبر لليهود واخيه اسماعيل الجد الاكبر للعرب ، رغم ان التواره لم تاتى على قصة ابراهيم وبناء الكعبه ، ولكن كل ماقلته فى هذا الخصوص ان ابراهيم اخذ زوجته هاجر وابنه اسماعيل واتجه بهم جنوبا ، واستكملت قريش القصه ببراعتها الاعلامية واضافت ان جنوبا هى مكه وبناء البيت كان من ابراهيم ابو الانبياء .
اهل الكتاب :
تمايز اليهود على بدو الجزيرة بكتابهم المقدس ( التواره ) ووصفوا باهل الكتاب فى محيط مغرق فى الامية ( الاميين )
النبى المنتظر :
منذ فجر التاريخ ، ومع بداية تشكل الوعى الانسانى بزغت فكرة الخلود والعداله ، التى كانت اسطورة اوزيريس وايزيس تعبيرا عن هذه الامانى ، فاوزيريس كان ملك عادل حكم مصر منذ البداية لمدة 28 عاما ، وسوف يعود ليملأ الارض عدلا بعد ان ملئت ظلما وجورا ، ومن هنا دخلت هذه الفكرة الى الاديان الابراهيمية الثلاثة وكل الفرق المتفرعة عنها ، ونظرا لما لحق باليهود من هزيمة على ايدى الرومان وتشتتهم فى الارض تضخمت لديهم فكرة النبى الذى سيظهر مرة اخرى ليس لاقامة العدل فقط ولكن ليعيدهم الى ارض الميعاد ومنها الى سيادة العالم .
اذن كان لوجود اليهود فى شبه جزيرة العرب عاملا حاسما فى بزوغ فكرة النبى المنتظر ، ورغبتهم فى ان يكونوا مثل اليهود اهل كتاب . ومن هنا بدات الارهاصات الاولى للتنسك والتعبد بين بعض اللعرب والذين عرفوا بالاحناف .
والى اللقاء فى المقالة القادمة…
6 تعليقات على مكة بين الأسطورة والتأريخ (1 – 2)
تحليل أكثر من رائع زميلي هشام. الخرافات هي أكثر من الحقيقة في كتب التاريخ، وأعتقد أن ما تفعله أنت من “تعرية” سلسة مبنية على المنطق والعقلانية والرزانة لهي أفضل دعوة للتفكير، النقد، التحليل والتنقيح.
تحياتي
عزيزى احمد زيدان
من خلال التعليقات على السلسله التى كتبتها عن رحلة المراة من التقديس الى التبخيس تاكدت ان قراء موقع الشرق الاوسط بالذات لديه رغبه فى معرفة الحقائق التاريخية المجردة التى تم اسطرتها واصبحت ضمن المقدس . ولهذا اخى العزيز فاننى اهتم بعشرة قراء فقط يريدون المعرفة اكثر من اهتمامى بعشرة الاف قارى على الحوار المتمدن – ومعظمهم ماركسيين واقباط – يعرفون الحقيقة الدينية الاسلامية ولكنهم يقرأون لى للاستزاده والتحيليل المنطقى والربط بين الاسطورة والدين .
لهذا سيكون موقعكم دونا عن غيره هو سبيلى لتقديم مزيد من الحقائق التى طمسها المقدس .
واعذرنى ان كنت تاخرت فى الكتابة لان خلفية الاحداث على الساحة السياسية فى مصر بدات تتكشف حقائقها يوما بعد يوم وتحتاج الى رصد وتحليل ولهذا كتبت عدة مقالات فى الشأن السياسى على الحوار المتمدن ، واظن ان قراء موقعكم يحتاجون الى كشف المستور فى المقدس اكثر مما يحتاج الى المقالات السياسية .
تحياتى اخى العزيز .
أشكرك عزيزي وأتفق معك كليًا، وإن كنا نهتم كذلك برصد وتحليل الشأن السياسي، كما نهتم بكشف المستور عن “المقدس”. شكرًا
تحليلات د. شريف حتاتة في سلاسله تستحق أن تصير كتابا مستقلاً..
تحياتي للدكتور و الشكر لجهده البحثي و العلمي الذي أثق انهما في بلاد اخرى يقوداه للوزارة و في بلادنا غالبا للمحكمة..
عزيزى محمود عرفات
يبدو انك خلطت بينى وبين الدكتور شريف حتاته الروائى والزوج السابق للسيدة نوال السعداوى . نحن اقارب ولكنه علمانى ماركسى وانا علمانى ليبرالى .
اشكرك على التعليق ، وانا فعلا نشرت من قبل كتابين عام 2007 ، 2008 وذكرت فى كتابى الاول بعنوان : الاسلام بين التشدد البدوى والتسامح الزراعى وقلت فيه انه فى خلال خمسة سنوات سيصل الاخوان المسلمين الى الحكم ، وقد اشاد بالكتاب عدد من الكتاب الكبار ، والغريب انه بعد مرور خمسة اعوام بالضبط من النبوءة وصل الاسلاميين للحكم .
اما ان انشر الآن هذه الكتابات فلا اعتقد انه فى زمن الاخوان سترحب اى دار نشر بهذه الكتابات
عموما انا افكر جديا فى النشر اذا رأيت دار نشر لديها الجرأة وانا مستعد لان اتحمل توابع كتاباتى حتى لو وصلت الى المحاكمة .
تحياتى زميلى العزيز .
تحياتى استاذ هشام على شجاعتك_من الجميل ان نخربش عقولنا و نفكر فى ماضينا بعلمية و موضوعية محايدة بدون استقطاب “لا تقديس و لا تبخيس حتى نرى الحقيقة و نعرف كيف نتفاعل معها ان اردنا او نتركها و نتطور مع العالم”
_انت و غيرك من الكتاب من المثقفين الذين قال عنهم المفكر الكبير (مراد و هبة) عندما سالوه عن وضع دول العرب بعد الاحتجاجات الشعبية فى 2011 و وصول التيارات الدينية لمناصب فى الحكم فيها و بداية استغلالهم شعارات الدين فى صناعة القوانين و الحكم فقال “كدة انت رجعت للعصور الوسطى و اُقعد فيها زى ما انت عايز_100 ,200 ,300 سنة–زى ما انت عايز”
فسالوه ما الحل اذن فقال .. ” الحل. شجاعة من المثقفين” _ موضوعاتك قيمة يا استاذ هشام و مفيدة فعلا لمن يريد ان يخربش عقله قليلا بعيدا عن التابووهات المحيطة بنا