في العقود الأخيرة، ومع تراجع دور الدولة بقوة في كافة المجالات، وإزدياد طغيانها السياسي الإقصائي لأي صوت معارض، وتدّني خدمات مؤسسات المجتمع المدني، وانهيار المنظومة القيميّة والفكريّة والثقافيّة في المجتمع، وحيرة الإنسان عن العثور عن مكان آمن يلجأ إليه لسدّ حاجاته الطبيعيّة والإجتماعيّة والسياسيّة التي عجزت الدولة، بقصد أو بدون قصد عن سدّها، وبدلا من الحلم بالمدينة الفاضلة المتخيّلة التي يأخذ كل مواطن فيها حقه بالقسط والعدل في ظل سيادة القانون؛ وجد المسيحي في الكنيسة منظومة إجتماعيّة وسياسيّة تقدم نفسها له ولغيره كنسق متكامل موازي بديل عن الدولة، قادر على الإحلال والإبدال مع كل مؤسسات الدولة واحدة بواحدة، منظومة لها قوانينها الخاصة ومناصبها وأقسامها المتعددة، حتى أنها تشكِّل بالفعل دولة داخل الدولة، بها رئيس هو البطريرك، ووزراء هم الأساقفة، ومحافظين ورجال محليات هم المطارنة وقمامصة وكهنة الكنائس، كل في مكانه، كل له مُسماه الوظيفي، وربما لهذا السبب تأخرت ثورة المواطن القبطي المسيحي وتمرده على منظومة فساد الدولة، لأنه حوّل إنتماءه لمكان آخر، وبناءًا عليه عملت الكنيسة المصريّة على سحب المصداقيّة والشرعية من مؤسسات الدولة – بعد موتها الطبيعي طبعًا لإنتفاء الوظيفة- وتكوين شخصيّة متفردة للمسيحي التابع لها وفق عدة تعاليم دينيّة وآبائيّة وروحيّة، وخصائص وملامح إجتماعية متفق عليها.

- هناك فساد في العمليّة التعليميّة الحكوميّة، من حيث آليّة التدريس، وأهمية وجدوى المادة العلميّة المُقدمة للطلبة، لا تقلق فالكنيسة تقدم لكم “مدارس الأحد”، والتي تكون للمفاجأة في يوم الجمعة!؟، وهي فصول دينيّة مُمنهجة مُقسّمة لتلائم وتطابق جميع المراحل التعليميّة. أسرة ملائكة أي أطفال الحضانة، ثم إبتدائي، إعدادي، وثانوي، واجتماع الشباب للجامعيين، واجتماع حرفيين لأرباب المهن، أي كلّ من لم يحصلوا على درجة تعليميّة، وفي الغالب تُدرّس لهم القصص الدينيّة المليئة بالخزعبلات والخرافات، فهم أصحاب العقول البسيطة الأقرب لتصديقها.

-    في الأجازة الدراسيّة، يبحث الطالب الذكي عن وسيلة لزيادة مهاراته، ليلتحق بكورس للتّعرف على لغة جديدة، أو استعارة كتب لفهم العالم من حوله وإتساع مداركه من خلال زيارة قصور الثقافة والترفيه الإنساني الفني، فهناك يمكنه مشاهدة عرض تمثيلي أو موسيقي، مباشر أو مُسجّل، أو سيرك، داخل بيت فنون، ولكن للأسف جميعهم، أو أغلبهم، تمتلء قواعدهم مع قدوم أول خمسين شخص من الحضور. تجد في الكنيسة عروضا مسرحيّة وسينمائيّة وأوبراليّة متنوعة في “الكرنفال الكنسي”، و”مهرجان الكأس لمين!؟”، وهما الفرعان المسؤولان عن إلهاء الشباب طوال فترة الأجازة، لكل كنيسة برنامجها ومسابقاتها على حدا، بتنسيق من أسقفيّة الشباب، كوزارة الشباب تمامًا، وربما بداخلها قسم لإدارة الشؤون المعنويّة، للحفاظ على حالة الإلهاء التي تسيطر على الشخص المسيحي طوال العام، وحتى يبقى الطلبة في حالة متابعة لأنشطة الكنيسة حتى في الأجازة. وهناك مكتبة لكتب ومجلات الاستعارة والبيع والشراء وجميعها نصوص دينيّة، وشرائط و CD’s، أفلام قديسون وعظات للبابا وحفلات الكنيسة، لكبار المرنمين اللامعين، كلها تُباع وتُستعار في مركز خدمي تطوعي يوفر لك أيضًا كورسات اللغات والتنميّة البشريّة والجرافيكس، وبشهادات دوليّة معتمدة متخصصة، أما عن الحفل الكنسي السنوي، للعلم فقط، فلا تتعدّى تذكرة دخوله العشرة جنيهات، والأطفال مجانًا.

 -    وعن الترفيه والرحلات، الكنيسة توفر لكم رحلات ترفيهيّة لكنائس أخرى وأديرة وبعضها يحتوي على حدائق وأحواض للأسماك أو متحف أثري صغير، وأحيانا تتوفر في بعض الدير أقفاص صغيرة لبعض الحيوانات الداجنة.

 -    أمّا في مجال الصحة، ستجد بجوار الكنيسة عيادة متخصصة  بأسعار زهيدة للكشف والعلاج الذي يكون غالبًا عينات مجانيّة، أو أدويّة قاربت على انتهاء صلاحيتها، تقدمها شركات الأدويّة كرشوة للكنيسة، أو هديّة عيد، للحصول على عمالة رخيصة. وإن فشل علاجك، وارتفع ثمن دواءك، والكنيسة لم تقدر على تلبيته لك، فحينها يتم ترحيلك إلى قسم التبرك برمال مقابر القديسين وزيوت أكفانهم.

 -     في مجال التغذية، الكنيسة توفر لكم أسواق خيريّة للملابس المستعملة والجديدة، بأسعار منخفضة ومجانيّة في أغلب الوقت، حسب مناسبة توزيعها. بل وتجد منتجات الدير المختلفة، الطبيعيّة، الأورجانك، الغير ملوثة، والمضمونة المصدر كعسل وفواكه ودواجن وخضروات ولحوم، أنظر كلها أمامك وبلا عناء للبحث، لم التمرد إذن على الكنيسة!!؟

 -    في البحث عن شريك الحياة، الكنيسة تقدم اجتماع للمخطوبيّن أو المُقبليّن على الارتباط، يُسمى اجتماع المشورة، ويتمكن من خلاله الخطيبين من التحدث إلى بعضهما البعض بهدوء وبلا أفكار نجسة، الله يرانا، ونحن  تحت رقابة الكنيسة في النور بلا داعي لرقابة الأهل!؟، وهي خدمة للمسيحيين فقط طبعًا.

 -    بعد شحن غضبك من الدولة، وتمسكك بالكنيسة أكثر وأكثر، وعدم عثورك على أي اهتمام أو حق في أي مكان حكومي، تدرك جيدًا أنك “مالكش عيش هنا” فترغب بالسفر للخارج، من باب الترفيه، أو العمل، أو البقاء هناك للأبد، تحت ظل اللجوء الديني، أو الهجرة، تجد في الكنيسة “مكاتب الهجرة” والتي يكون بعضها مُعتمد من السفارات، هكذا!!؟، تساعدك على السفر إلى أمريكا، وكندا، وفرنسا، كل ما عليك فعله هو أن تدفع للسكرتيرة مبلغ ملء الإستمارة، وإرفاق الصورة بالمقاس المطلوب، وتنتظر مع صف المنتظرين.

    الكنيسة، بعد جهد عظيم، سدّت للمواطن المسيحي هذه الثغرة، بدمج النظامين، الديني والدنيوي بيد رجل واحد، هو قداسة البابا، وللنظام الديني الغلبة والقوة، حتى وإن لم يكن كاملاً وبه نقص، تكفي حالة الطمأنينة التي تنتاب المؤمن داخل هذا الكيان الجديد، لأنه يقوم بأفعال مأمور بها من قوة فوقيّة بابويّة معصومة لا تخطيء أبدًا، فلماذا المغامرة بالتمرد عليها!!؟.