(لما تروح على بلد بتعبد العجل حش و أديله) , مثل غريب جدا من تراث أمثالنا المصرية يتحدث عن كيفية تسييس الأمور بدون عناد أو تصلف فى أى مكان و زمان, و لكن ليست هذه هى غرابة المثل , بل إن غرابته متعلقه بلفظة (بتعبد العجل او البقر) (و سأستخدم كلمة البقر فى المقال) فظننت فى أول الامر أن الموضوع متعلق بالثقافة الهندية النابعه من الديانة الهندوسيه و بدأت البحث فى التاريخ لعلى اجد ارتباط بين المثل و بين الديانه الهندوسية لكنى تفاجئت حين علمت أن هناك أيضا عبادة للبقر فى الزرادشتيه , بل إن الموضوع راسخ فى القدم و موجود فى المعتقدات الدينية الفرعونية , و هنا ظهرت عدة أسئله مهمه مثل لماذا البقر بالذات ؟ و ما السر وراء ذلك ؟ فقررت البحث فى أصل الموضوع فى الديانة الفرعونية و لم اكن اعلم أنها ستمدنى بالإجابة الوافيه.

يعود أصل الأسطورة إلى قصص عديدة فى التراث الفرعونى فـ أول هذه القصص هو أسطورة هو قصة الربة (نوت) و التى لعبت دورا غاية فى الأهميه فى الميثولوجيا المصرية القديمة كربة للسماء حيث يمر (أتوم) بمركبته كل ليلة ليطمئن على أحوال الآلهه و تنتهى رحلته نهارا حيث تتم ولادة يوم جديد , و قد تمتعت (نوت) بدور فى الطقوس الجنائزيه المصرية و تمحور دورها حول فكرة إعادة البعث و الميلاد لدى المصرى القديم , إذ تشير النصوص إلى رغبة المتوقى فى أن يصبح نجما على جسد (نوت) , و وفقا لمذهب عين شمس فى الخلق فـ إن (نوت) إتحدت مع (جب) لإنجاب (أوزير) و الذى إرتبط بالبعث و دورة إعادة الحياة , و قد لعبت (نوت) دورا هاما فى إعادة إحياء الملك المتوفى فى النصوص المقدسة للأهرام و هو ما تم الإشارة إليه فى العديد من الفقرات , كما أنها لعبت الدور ذاته فى نصوص التوابيت , و قد صورت هذه الأساطير الشمسية فى مجموعة مقدسه من الكتب الدينية و التى عرفت معا (بكتب السماء) , و هى مجموعة جديده من الكتب ظهرت بعد عصر العمارنة , تقوم أساسا على تمثيل المعبودة (نوت) تنقل الرحلة الليلية للشمس بداخل جسدها و من ثم إلى السماء بعد ذلك , و أيضا ترعى الموتى بتحويلهم إلى نجوم على جسدها إلى حين إعادة بعثهم من جديد.

أما الأسطورة الثانية الفرعونية و التى تقوم عليها عبادة البقر هى قصة الربة (حتحور) و التى يعنى إسمها مكان استقرار حور او حورس , و هى توصف بأنها إبنة الإله (رع) , و كانت هى إلهه السماء و الحب و الجمال و المتعة , و صورت كبقرة أو إمرأة يزين رأسها قرص الشمس بين قرنى بقرة و دائما ما تمتلك أذنا بقرة و كانت اهم معابدها فى دندرة (الصعيد) حيث سميت هناك بـ (حتحور العظيمة , سيدة دندرة , راعية السماء , ملكة الآلهة , إبنة رع المبجله) , و قد وحدّتها الثقافه اليونانية بأفروديت لأنها كانت آلهه الرقص و الموسيقى و الحب و كل ما يبعث على السرور , و كانت الربة (حتحور) تصوّر أحيانا كإله من آلهة الموتى و صارت سيدة الموتى فى الثقافة الفرعونية القديمة و تم تصويرها فى المعابد الجنائزية على هيئه شجرة الجميز لكى ترعى الموتى و تعطيهم ما يأكلوه و يستظلو به فى رحلتهم إلى العالم  الآخر.

أما الأسطورة الثالثة هى قصة الثور (أبيس) أو الثور المقدس فى الحظائر و الذى يمثل روح الإله (بتاح) و هو يرمز للخصوبة و النماء و كان يعبد فى منف , و كان يتم رسمه كالثور الذى يتوج رأسه بوضع قرص الشمس بين قرنيه , و كانو يختارون العجل أبيض اللون فيه يقع سوداء بالجبهه و الرقبة و الظهر , و كان يعيش فى الحظيرة المقدسة وسط بقراته , و عند موته كان الكهنه يدفنونه فى جنازة رسمية , ثم يتوج ثور آخر كإله فى الحظيرة المقدسة وسط إحتفالية كبرى , و من ملخص هذه الأساطير نجد ان الربة (نوت) و الربة (حتحور) و رمزية الإله (بتاح) تم تجسيدهم فى هيئة بقر كإستدلال على رعايتهم فى الحياة و فى الموت للبشر , ففى الحياة نجد أنهم يمدو البشر بالأمل و التفاؤل و العطاء و النماء , أما بعد الموت نجد أنهما (نوت و حتحور) يمدا يد المساعدة للتخفيف من وطأة الرحلة التى يجتازها البشر فى العالم الأخر , و هو إسقاط مباشر على العلاقة بين الراعى و الرعية فالآلهه هنا تمثل الراعى و البشر هنا يمثلون الرعية.

و بقراءة سريعة فى الديانة الزرادشتية نجد ان هناك العديد من النصوص و التعاليم المقدسة تدل على تطابق غريب مع ما سبق فأهورامازدا هو الخالق و إبنته هى البقرة و بالتالى هى من الآلهه و التى بفضلها تم منح البشر سبب الحياة و هناك ما يؤكد هذه الأقوال فى الكتاب المقدس للزرادشتيه (الأفستا) مثل النص الذى يقول بتقديس روح الأبقار و وجودها فى مرتبة واحدة مع الإله (“هَكَذَا نَقَدَس رَوَّحَ الُبَّقَرة وخالَق الُبَّقَرة أروأَحَّنَّا وأروأَحَّ آلَمَاشٍيَة تَضَمَّنَ سَلاَمَة حَيَّآتُنّا ولأجُلّهَمَّا ستَكَوَّنَ الحَيَاة) , و أيضا هناك النص الذى يصور الثور (ذكر البقر) كالإله المانع العاطى الخالق للوفرة و النماء (التَحِيَّة لك أيها الثَوْر السخى , التَحِيَّة لك أيها الثَوْر الخَيَّرَ , يا مَنّ تَصَنَّعَ الَوْفْرَة والٍنَمَاء , يا مَنّ يُمْنح حصته للَمْؤْمِن القَوِيم وللَمْؤْمِن الَذَّى لَمْ يوَلَدَ بَعُد) و أيضا هناك النص الذى يقول أن سبب الحياة للبشر هو البقرة (نعَبَدَ سَلَّطَته عَظُمَته بَرَّأَعَتَه التى تعَدَّ الأهَمَّ فى عَبَّادته نَحْنُ نحَيَّا بفَضَل الُبَّقَرة).

أما بالنسبة للديانة الهندوسية فقد تولت النصوص الهندوسية المقدسه بتفسير كينونة البقرة كأم للإله فهى صاحبة المكانة السامية لأنها تعطى البشر الحليب الذى يهب الحياة للناس , و من اجل هذه المنزلة المتميزة للبقر يعبدونها و تنص الهندوسية (و القانون الهندى) على عدم إيذاء الأبقار أو إبعادها عن الطريق , فهى تحمل الشارة المقدسة من الإله , و يحتفظ بها المتدينين فى منازلهم كنوع من التبرك و التقديس , فهم يتبركون ببولها و يدهنون المطابخ و الجدران بروثها , لتعم الخيرات على هذا المنزل و تحل عليه البركة المقدسة , و من يزور الهند يجد ان تماثيلها فى كل مكان و تتمتع بحرية مطلقه و لا يؤكل لحمها ولا يستعمل جلدها أبدا , و هو ما يظهر فى النص القائل (أيتها الُبَّقَرة آلَمَقَدَّسَة لكى التَمَّجِيَد و التبجِيْل , ففى دَعْائنا لكى تتَفَّضَلَيِّن عَلَّيِّنا مَنّ بَرَكَآتك , و نَقَدَسَكَّ فى كَلَّ مَكَآن تَكَوَّنَيِنّ فيه) , و لكن مكانة البقر ليست فى العبادة فقط و لكن أيضا فى التكفير عن الخطايا , فمن إرتكب خطيئه و يريد التكفير عنها يجب أن يمزج بول البقرة بروثها و لبنها و زبدها و يشرب هذا المزيج فيصبح جسده طاهرا , و لم تكتفى الهندوسية بهذا فقط بل جسدت كريشنا أنه إله قطيع البقر , و الذى أصبح أكثر ألآلهه شعبية و محبة عند الهندوس

اما بالنسبه للتوراة العبرانية (و بالتالى العهد القديم فى المسيحية) فنجد ان قصة السامرى هى أشهر قصة تدل على إقتباس الديانه اليهوديه لعبادة العجل من المصريين القدماء , ففى سفر الخروج الإصحاح الثانى و الثلاثين من الأيه 1 إلى الآيه 7 نجد (وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ، اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: “قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ”. @ فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: “انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَاتُونِي بِهَا”. @ فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى هَارُونَ.‏ @ فَأَخَذَ ذلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالإِزْمِيلِ، وَصَنَعَهُ عِجْلاً مَسْبُوكًا. فَقَالُوا: “هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ”.‏ @ فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ بَنَى مَذْبَحًا أَمَامَهُ، وَنَادَى هَارُونُ وَقَالَ: “غَدًا عِيدٌ لِلرَّبِّ”. @ فَبَكَّرُوا فِي الْغَدِ وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ. وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ. @ فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: “اذْهَبِ انْزِلْ. لأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ الَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ.‏ @ زَاغُوا سَرِيعًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْصَيْتُهُمْ بِهِ. صَنَعُوا لَهُمْ عِجْلاً مَسْبُوكًا، وَسَجَدُوا لَهُ وَذَبَحُوا لَهُ وَقَالُوا: هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ”.‏ @), و هو دليل على أن عبادة البقر هى كانت العبادة الأقرب لليهود المهاجرين من مصر نتيجه اقتباسهم لما كان يعبده المصريين آنذاك, و مدى تقديسهم و تقديرهم لرمزية العجل.

اما الديانة الإسلامية فقدت أكدت رواية عبادة اليهود للبقر مع اختلاف فى التفاصيل ففى سورة الأعراف من الأيه 148 إلى الآيه 154 نجد قصة السامرى كالتالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ @ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ @ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ@ قَالَ ابن أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ @ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ @ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ @ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ @ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) , بل و هناك استزادة فى تقدير دور البقر ف هناك حديث ذكره إبن القيم يقول فيه (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ” أَكْرِمُوا الْبَقَرَ فَإِنَّهَا خَيْرُ الْبَهَائِمِ مُنْذُ عُبِدَ الْعِجْلُ لَمْ تَرْفَعْ رُءُوسَهَا إِلَى السَّمَاءِ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ”)

المصادر

The Encyclopedia of Religions By Robert S. Ellwood

Ancient Egyptian Religions by Jaroslav Černý

The Avesta

The Hindu Mahaburata

Holy Bible

Holy Quran