لم تكن هذه هي زيارتي الأولى إلى هذه البقعة المليئة بالألوان والتضاريس الرائعة.. لكنها كانت الأروع. لأول مرة أحس بأني اريد الذهاب إلى هناك والتعرف على اناس اخرين من قومية وعادات وتقاليد مختلفة.
لكن.. لنعد قليلا إلى الوراء..
عندما كنت صغيرة، سمعت الكثير من القصص الخرافية المليئة بالغابات والمياه وحتى الينابيع التي تخرج بشكل قوي و عفوي من باطن الجبال الضخمة الرائعة. الكل اتفقوا على عبارة ” قطعة من جنة الله على الأرض!!”
سنوات قليلة أخرى ولأني نشأت في بيئة سياسية معارضة لنظام صدام.. سمعت بأن الأكراد قد إنتزعوا حكمهم الذاتي لأرضهم من هذا الطاغية.. ( الله! كم اعجبتني عبارة إنتزع!).
فرحت بشكل طفولي لخبر أن هناك بقعة في هذا البلد المليء المتعب تحكم نفسها بنفسها.
إزداد إهتمامي في نهاية التسعينيات، وبدأت بقراءة الممنوع والمستنسخ.. وكان احد اهم تلك الكتب (جمهو رية الخوف، القسوة والصمت) للكاتب (كنعان مكيه).
رأيت القسوة في كلماته، عرفت معنى التصفية الجماعية.. معنى أن تقوم برش المبيدات على البشر! معنى أن تنتمي إلى قومية مهددة بالعزل والقتل.
كان ابي يقول دوما:” إحترمي معاناة الأخرين ولا تصادريها حتى وان كانت بسيطة جدا، كي لا يستهان بمعاناتك”
بعد الحرب بعدة شهور نظم مؤتمر الحوار العربي الكردي”الطلابي” . كنت متعطشة لرؤية المنظر.. بأنتظار الوصول..وفعلا وصلنا إلى إحدى القرى .. داخل المركز الشبابي.. كان الشباب متمركزين على شكل تجمعات صغيرة وقف أحدهم على المنبر وقبل الترحيب بنا قال” نحن لن نتنازل عن أرضنا!” إقشعر بدني للجملة.. أحسست بأني أقف في مؤتمر لتقسيم البلدان حسب الرغبة !!!
رد عليه أحد الشباب “العرب” اخذوها ما نريدها”!! تفاجأت أكثر..
أين هي أصول التحاور الكردي العربي؟؟ أتينا للحوار.. لم نأتي للإختلاف.. في حينها بدأت تتشكل عندي وجهة نظر أخرى عن الموضوع..
“من هم؟؟؟” ، “ماهو خلافنا المصيري معهم؟؟” ، ” اسباب وجود معاملة سيئة بين الأفراد من الطرفين!!”
مرت سنة أخرى قبل أن أزور عروس إقليم كردستان السليمانية.. كانت هذه المرة للتحضير لمشروع حوار كبير يضم العراق ككل “حيث إتضح انه المشكلة ليست عربي كردي بل المشكلة بشري بشري!!!” هذه المرة فوجئت بأن بائع الفواكه لا يريد ان يبيع كيلو التفاح الا بعد ان اقر بضرورة وجود كردستان! أتحدث العربية يرفض التواصل معي فأستعين بمترجم. في الحقيقة نعم لديهم بعض العقول المتزمتة مثل الذي لدينا . التزمت حالة واردة لدى كافة القوميات الوطوائف فلا تفكروا ان الموضوع بسبب انه”كردي”.
فوجئت بمجموعة من الشباب الواعي فعلا.. هؤلاء الذين تجد لديهم حس الإنتماء لبلدهم ككل، لا اقصد هنا انهم تخلوا عن قوميتهم.. ولن نطالب كعرب بذلك.. لكنهم مؤمنين بوجودهم في العراق…
إقتنعت بعدم ضرورة الخوف من تسمية “كردستان”. هي حقيقة واقعة موجودة حتى لو أصر العرب على عدم وجودها.
هي موجودة فعلا! بقوانين و برلمان وجامعات ومشاكل و نزاعات كتلك التي نملك!
المضحك في الأمر أن العرب يعتقدون أن الأكراد لديهم نية تقسيم العراق و انهم بإصرارهم على تسمية هذا الجزء الشمالي ب(كردستان) يدعمون المخطط الأمريكي الصهيوني!
بالنسبة لي اني ارى في هؤلاء الشباب(قادة المستقبل) رغبة في العيش بأمان! ومن منا نحن كعرب لن يطالب او يرغب”بل حتى يحلم بذلك” .
إستحق الأكراد تحررهم المبكر من نظام صدام. نعم أعلم انني يجب ان ادرج ايضا نظال العرب والشيعة في هذه الفترة! لكنني الان اتحدث عن الأكراد فقط. كم جميل لو تخلصنا من اسلوب التفكير بمعاناتنا كمحور كوني لابد لنا من المرور على ذكره حتى وان كان الحديث عن المجاعات في افريقيا.
لنكن موضوعيين بعض الشيء، لمدة 13 عاما بنى الأكراد هذا الجزء الشمالي من الخارطة ” كردستان ” حموه بكل ما يمتلكوه من قوة. بعد تضحيات وتصفيات عديدة. لم نبخس عليهم حريتهم في الوجود هناك؟؟ من نحن لنفعل ذلك؟؟ ماذا لو كانوا العرب أنفسهم “أقلية”؟؟؟
مرت سنتين طوال قبل أن ازور كردستان الجميلة مرة أخرى. هذه المرة كانت لتدريب مجموعة من الشباب على اليات التواصل والحوار.
في أول 5 دقائق إعترضوا على إستخدام العربية! .. ابتسمت وأشرت انه ليس ذنبي لأنني لم أتعلم الكردية.. لم أجدها في المدرسة! هذا كل ما هنالك. ولن أجبرهم على إستخدام العربية. إستعنت بورقة بيضاء كتبت عليها عبارة “ترجمة” وسهل عليً الموضوع وجود فتاة كردية كانت قد أمضت 19 سنة من حياتها في بغداد.
منذ البداية صرحت بأني” مع حقوق الأكراد”! لنبتعد عن النقاشات العقيمة.. وانا فعلا مؤمنة بالموضوع.. قضينا 3 ايام مليئة بالنقاشات الفعالة.. صحيح أني لم أستطع فهم سوى بعض الكلمات لربط الحديث بآخره. لكني بنيت جسرا من العلاقة بشكل بسيط بيني وبين أبناء قومية تشاركني الأرض التي أعيش عليها.
ايقنت أن التواصل هو الحجر الأساس في بناء كل عملية سلام وتفاوض.لن نستطيع التوصل إلى نتيجة لا عربية ولا كردية إذا استمر الخلاف.
التهديد بإلغاء نظام الأقاليم و كردستان من فترة إلى اخرى لن يضيف لنا سوى مشاكل و نزاعات الطرفين في غنى عنها.
الإعتراف بحقوق الأخرين وحرياتهم سيضمن لنا الإعتراف حتى لو مستقبلا بحقوقنا وحرياتنا كشباب نقطن هذه البقعة من كوكب الأرض
2 تعليقات على مساحات خضراء بلون عينيك!
Quote
الإعتراف بحقوق الأخرين وحرياتهم سيضمن لنا الإعتراف حتى لو مستقبلا بحقوقنا وحرياتنا كشباب نقطن هذه البقعة من كوكب الأرض
Unquote
Exactly! أنجزت فأعجزت!
المقال شيّق لك يا رنا كالعادة… بالطبع كل شيء ممكن بالحوار! أنا أعتقد بأهمية الحوار السلميّ، وهذا ما يثريه الموقع هنا…
يا ريت لو نجد شباب كرديّ يتحدث العربية، ليكتب هنا على الموقع…
تحياتي
salam