“تعال لزيارتي يا آدوما .. آدوما”
فتح آدوما عينيه بصعوبة و تقلب في فراشه محاولاً العودة للنوم بعد أن تنبه الى حركة ستائر نافذته غير موصدة الغلق حين سمع صوت كالفحيح يقول ببطء : ” تعال لزيارتي يا آدوما”
تجمد الدم في عروقه و ثبت نظره في فضاء الغرفة, تقلب في فراشه ببطء حتى صار وجهه مقابل للنافذة, دقق النظر حتى إعتادت عينيه الظلام و لحظتها استطاع أن يرى خيال لوجه على مقرُبة سنتيمترات قليلة من وجهه.
ثمة وجه مألوف لفتاة تحدق النظر فيه ويعلوا وجهها شبح إبتسامة.
تأمل وجهها و لم ينتابه اي خوف, فقد إعتاد هذه الزيارات و الرؤى المضطربة, إلا أنها مؤخراً صارت في إزدياد حتى فقد أى خوف أو رهبة في أعماقه.
ظل على وضعه لدقائق طوال و ظلت هي بنفس ذات الإبتسامة, كالروح, لا وزن و لا حدود لها, كأنها الغرفة كلها.
“تعال لزيارتي يا آدوما”
أغمض عينيه للحظات ثم استدار فجأة فكانت قد اختفت. قفز من فراشه و أسرع يتمم على النافذة ليجدها محكمة الغلق كما تركها قبل استعداده للنوم. أدار موصد النافذة و فتحها ليتأمل الحقول الواسعة التي يطل عليها منزله الريفي عاقداً العزم على عبر الحقول ليصل الي المقابر في الجهة الاخرى, فوقتها فقط علم ما ينبغي عليه فعله, شيء في قرارة نفسه أخبره أن سر هذه الزيارات يكمن في المقابر. وضع جلبابه عليه و أخذ طريقه للباب ثم أخذ يجري.
أخذ يتعثر في الظلام باحثاً عن قبرها و أخذ عرقه البارد يمتزج بدموعه و هو يصارع عدة المشاعر غير المرتبطة التي احتشدت و امتزجت في صدره حتى انبثق عنها شعور آخر, غريب و مر.
“هي هنا”
عرفها, و عرف انها هي, بكى و ضحك, توقف و تأمل تراب قبرها, ثم بدأ ينبش في الارض بقوة و سرعة لاهثا حين خُيِّل اليه أن ثمة حركة من تحت الارض, فتوقف ليشعر بها هي الاخرى تنفض التراب من فوقها, اسرع حتى لامس كفنها الابيض بطبيعة حاله و الاسود بمرور الزمن, البالي المتماسك من جراء الزمن و ضيق القبر. منع نفسه بصعوبة من البكاء و هو يلامس اطراف اصابعها الجاهدة لتحرير نفسها من الكفن الخانق, حاولت بصعوبة ان تخلع العصاب من فوق عينيها الى أن حررت نفسها كليتاً فتوقفوا الاثنين في جهد و لهاث.
كانت مألوفة, مألوفة لدرجة بثت الرعب في نفس آدوما الذى مالبث ان بدأ في النحيب و أخذت هي تجفف دموعه, و تربت على كتفه مهدئة إياه بألا يخف, فحقيقة الامر ليست ببشاعة القبور و خوفه لا مبرر له.
ابتسمت ثم ضحكت حتى هدأ هو من البكاء…
تأمل وجهها بدقة, هي نفس ذات المرأة الساكنة في نفسه, يراها كثيراً حوله, نفس عينيها و نفس شعرها, نفس ذات الأُلفة, هي.. -”من انتِ؟ كيف اراكِ؟ كيف اعرفك؟”
-”انا هاڨا..”
-”أفقدت عقلي أمإانني اتكلم مع فتاة في كفنها؟”
-” أعرفك جيداً و أراقبك كثيراً, لا تطرح عليّ اسألة أعجز عن الرد عليها.. ”
-” أحية أنتِ؟ أعلى قيد الحياة؟”
-”قبل ميلادك كنت أجوب الكون , أعيش مرارا و لا أموت, وُلِدّتُ من عدة قرون أو لربما أقل”
-”لا أفهم”
-”لا عليك”
-”أنتِ ميتةٌ اذن؟”
-”مت و انا طفلة رضيعة,, قُتلت ربما”
-”كيف, احكي لي”
” أتذكر ذالك الظلام جيداً, ظلام دافىء و مُطَمْئِن, حتى جاء الوقت الذي ركلت فيه هذا الرحم المظلم بقوة واهنة و صرخت و انا أخرج للوجود أول مرة, استقبلت نور و برد, صرخت خوفاً و أملاً, فقد كان هذا الرحم بيتي الدافىء و مأواي, فيه وجدت غذائي و أماني, فجأة صرت عنصر, منفصل, غير متصلة بأحد أو شيء. شعرت بالمخاض مثلما شعرت به أمي. أتذكر الألم و الخوف فلكم هو مؤلم استقبال الحياة,و كم هو مخيف الاستقلال.”
صمتت برهة ثم أردفت ” مثل الغطاء في ليل شتاءٍ قارص, حين يتحرك تاركاً إياك عاري في الفضاء البارد, هكذا استقبلت الحياة, عارية, صارخة, ضعيفة .
رأيت الشمس و الليل, و آلمني اختلافهما, سمعت الكثير من الصخب و الضجيج فتألمت, بردت و تجمدت, خفت كثيراً و بكيت, و قلما ضحكت.”
-” ولدت طفلة جميلة في القصر الملكي للأم ووه و الإمبراطور جاوزنج, و في الأشهر الأولى بدات أحب الحياة, أحببت صفاء النهار و ألوان زهرة الشيري, و لكم استمتعت بالتدليل الذي لقيته ممن حولي. استشعرت كل ثانية من يومي بدماء ساخنة, تجري فيها عظمة السُلطة و المَلَكيّة, حلمت بنفسي أكبر لأصير اميرة, و لربما صرت أول إمبراطورة للصين, من يدري؟ كان لدي الكثير من الأحلام و الخطط, لكني كنت أُذكر نفسي ألا أسبق الزمن و أن أتلذذ بالتدليل الذي ألقاه, فأنا أصغر رضيعة في القصر الملكي و إبنة الإمبراطور. نمت هادئة في مهدي أكبر ببطء, و أتعمد الأحلام, حتى مت.”
-”لا أدري من قتلتني, أمي ووه أم الإمبراطورة وانج زوجة أبي, كَثُر الكلام و أبي ضعيف العقل, و صار الأمر برمته نسياً منسيا ً ما أن أطاح أبي بالإمبراطورة وانج متهماً إياها بقتلي.”
نظر لها آدوما في زهول “أقتلوكي رضيعة؟ أوأنتِ حقاً من الصين؟ و لكن كيف ج… بماذا شعرتي؟”
-” بالأمان, فقد عدت لنفس ذلك الرحم الدافىء المظلم, هو القبر أو لربما هو رحم أمي”
-”ألستِ غاضبة؟”
-”لا, أنا من الأموات بالفعل”
-”حقاً أنت من الأموات. كيف جئتي لي؟ هنا؟ من الصين؟ أي بلد تلك؟ أين تكون؟ كيف تموتين رضيعة و أراكِ أنا إمرأة؟”
-”لا أدري كيف جئت, لا تطرح أسئلة أعجز عن الرد عليها, لا أدري ما الذي جذبني تجاه بلدتك, و لكن أنا هاڨا يا آدوما, أنا حواء خاصتك, ليس لي عُمر حتى ولو جئت الدنيا في جسد رضيعة!”
صمت آدوما و شرد ذهنه, حتى قاطعته هي بالكلام ” من أين أتيت بكل ذالك الأسى الذي يملأ عينيك؟”
نظر لها قائلاً: -”لكم اردت أن تكوني معي, لنعمر الأرض سوياً, أن أكون لكي آدم و تكونين لي حواء, أن نصير كل العالم بدايته و نهايته.”
توقف آدوما و أخذ يبكي بحرقة و تهدج.
“أنتِ خاصتي و أنتِ ميتة, بحثت عنكِ كثيراً و طفت أرجاء البلاد, رأيتك مراراً حتى ظننت اني فقدت عقلي, سألت كل من عرفته عنكِ, وصفت ملامحك لكل إنسان, رسمت وجهك في كل مكان, فقط لأكتشف أنكِ ميتة… و منذ قرون؟” توقف آدوما حتى ينظم نَفَسَهُ المتقطع ثم أردف قائلاً:
“كيف لا نأتي في نفس الزمان؟”
أخذت هاڨا برفق تمسح دموعه قائلة: “لا تتألم, أنت بحثت عني طيلة حياتك, بينما أخذ بحثي أنا حياتي و بعد مماتي.. أتركني الآن أعود الى قبري و ملاذي, سأجلب لك قصة معي لاحقاً تلهمك كيف تعمر الأرض حتى تنضم الي”
بكى آدوما و هو يقول” أنت لستِ هنا, إنك لستِ حتى بقريبة”
-هاڨا: ” كن لي الهاماً, و لا تكن لي عجز”
-آدوما: ” انتظرتك كثيراً و خيل لكل من يعرفني أنني مجنون, إنني أكلمك طوال الوقت, حين تكونين أنتِ في عالم آخر و بلد آخر أكون أنا هنا أحدثك, استشيرك و استمع اليكِ….. ابقي معي, ارجعي لي.. ابقي هنا و لا تتركيني, كيف لي أن أعمر الأرض وحيداً؟”
-هاڨا: ” نحن بالفعل نعمر الأرض سوياً , لن أزورك مجدداً, و أكمل أنت ما بداته.. ستنضم الي لاحقاً”
بدأت تُحكم هاڨا كفنها حول جسدها, فأخذ آدوما يبكي و هو يمنعها لكنها أصرت و أخذت وضعها في قبرها و هي تلف كفنها حول ما تبقى من وجهها تاركة عينيها مكشوفة, ففهم آدوما ما تعنيه و توقف عن البكاء.
أخذ يضع التراب فوقها و حين إنتهى تمم عليه بقدميه ثم قَبَّل قبرها و إحتضن تراب أرضها و رحل.
عبر المقابر سريعاً و هو ينتابه نفس ذات الشعور الغريب الذي لا يدري كنهه, شعور جمع بين اليقين و الجهل التام المطبق, حتى أنه لوهلة لم يتبن أسماء الأشياء. عاد الى منزله و وقف أمام بابه ليكتشف كم هو وحيد و كم هي مظلمةٌ داره. حاول صعود الأدراج ليذهب الي غرفة نومه لكنه توقف و هو ينظر لأشباح أثاث منزله, و شرد بذهنه للحظات, فَهُيء له أنه إذا وجد نور ما لن يستطيع أبداً أن يضيء ظلام منزله القاتم الكئيب… شعر بالخوف و الوحدة.
خرج من منزله مهرولاً و أخذ يلهث و يتعثر مراراً, إتجه ناحية أقرب مصدر ضوء و أخذ يصرخ ” أخرجوا جميعاً من منازلكم , أنيروا المصابيح, طلّوا عليّ من الشرفات, لا تتركوني وحيداً في الليل, أخرجوا من منازلكم و أئنسوا وحدتي”
تعثر و وقع و أخذ يصرخ ملأ وجوده, فما عاد لشيء معنى. بدأت الناس تخرج الي الشرفات و تنظر له في اسى و شفقة و هو يصرخ حتى صار صراخه كعواء الذئب يدَوٌي في أرجاء الكون.
“لا تتركوني وحيد منزلي المظلم و تناموا أنتم سوياً في أمان, خذوني معكم…….. لا تتركوني وحيداً, اضيئوا الأنوار واخرجوا من منازلكم.”
ألتف حوله بعض أهل القرية في محاولةً لتهدئته و سحبه لبيت أحد الفلاحيين, لكنه أبى و ما أن لامسه أحدهم حتى أخذ يجري لاهثاً صارخاً متألماً, حاول البعض ملاحقته لكنه اختفى بين البيوت و الظلام, مختفياً في طيات رهبة الليل و سكونه, تاركاً خلفه آثار اقدامه المتعثرة غير المنتظمة.
3 تعليقات على حواء الجميلة
قطعة نثريه رائعة وملهمة شكرا لهذه اللوحة
هائلة الجمال يا رويدا…
أن ترسمِ هذه اللوحة الدقيقة كي تخرجِ بإدانة عمل شنيع ضد المرأة، قد يأخذ سطرًا واحدًا إذا ما ذكرتيه مباشرةً، هو بلا شك عملًا جيدًا..
ولكن قوليلي… إيه آخر عمل قرأتيه؟
وميض, شكرا جزيلا… تشرفت بمرورك
أحمد, رايك مهم جدا و بيدفعني للامام.. حاليا انا باقرا السائرون نياما لسعد مكاوي
ترشحلي حاجة؟