ـ تميزت مصر بجغرافيتها الفريدة فى العالم ، فالانهار فى العالم كله تنبع من الشمال الى الجنوب ، ولكن النيل ( اطول انهار العالم ايضا ) يأتى من الجنوب الى الشمال حاملا معه فى رحلته الطويلة الغريــن ( الطمى ) الذى كان يترسب فى رحلته النهائية حول دلتا النهر فى مصر مما يعطيها خصوبة لاتتوفر لاى دلتا نهر آخر.
- حدود مصر وفرت لها الحماية الطبيعية ، فمن البحر الابيض شمالا الى البحر الاحمر غربا الى الاحراش جنوبا والصحراء شرقا ، ضمنت مصر استقرارا امنيا من غارات البدو الجائعين .
ومع ظهورالدولة المركزية التى يحكمها الملك ظهر الآلهة الذكور ( بتاح – رع – آمون ) وتكرست سلطتهم فى السماء لتعطى ابنهم الجالس على عرش مملكة الارض شرعية الحكم كممثلين لهذه السلطة بصفتهم ابناءه ، والذين بعد موتهم سيصعدون الى اباهم الذى فى السماوات فيجلسون معه علـــــى عرشه السماوى .
ولكن للشعب قصة اخرى واله آخر وعالم آخر تحت الارض ، معكوسا ومتضادا مع عالم الملوك بحكم منطق الاشياء وترجمة للواقع الارضى – فالملوك لهم السماء والشعب له الارض – فكان للمرأة فيه دورا محوريا، ترميزا لمجتمع امومى قديم ، واستيعابا لحاضر ظلت فيه المرأة شريكا مؤثرا .
تقول القصة ( والتى ظهرت منذ بداية التدوين كحكاية من الماضى البعيد تفسيرا الواقع المعاش ) : انه فى سالف الزمان حكم مصر ملك عادل لمده 28 سنه علم المصريين الزراعة وحياكة الملابس واللغة والكتابة على ورق البردى ، وكان هذا الملك ” أوزير ” أو ” اوزيريس ” حسب التصريف اليونانى ، متزوجا من اخته ” ايزى ” او ” ايزيس ” حسب التصريف اليونانى ايضا ( رمزية لزمن المشاع الاول )
وكان اخيهم الشرير ” ست” يغار منه فقتله غدرا فى حيلة دبرها له – لاداعى لذكرها تفصيلا حيث هى خارج سياق الدراسة – ومزق جسده الى اشلاء ووزعها فى اقاليم مصر وحتى جبال ” بيبلوس ” فى لبنان ، ولكن ايزيس اخته وزوجته استعملت كل الحيل السحرية الممكنة مع الاله آمون لتجمع اشلائه وتعيده للحياة ، ولكن بدون عضو الذكوره الذى اكله الخنزير البرى ( ولهذا حرم المصرى القديم اكل لحم الخنزير لأن به قطعة من حبيبهم اوزيريس ، وسارت على هذا التواره ثم من بعد القرآن ) .
ولانه بدون عضو ذكوره فقد حملت منه بدون جماع جنسى حقيقى ( ونلاحظ ايضا بداية فكرة الحمل الالهى ) ثم انتقل بعدها الى العالم التحت ارضى ليكون الها للشعب ورئيسا للمحكمة الآخروية ، وبعدها يظهر كل عام فى بداية الربيع ليملأ الارض بالخضره والنماء ، ولذا فهو رب العالم الاخر ورب الخضرة والنماء( ونلاحظ ايضا اعتقاد المصرى القديم بأن العالم الاخر تحت الارض لانها سبب تجدد الحياة المتمثل فى عملية الانبات المتجدد كل عام ، وارى من وجهة نظرى ان فكرة الخلود لدى المصرى القديم كان اساسها ملاحظته لدورة الانبات المتجددة من حبه الى نبته الى تجدد الحبة مرة اخرى الى نبته .. وهاكذا )
وبعد الحمل الالهى بالطفل حورس غادر اوزيريس العالم واختفى فى مملكة الارض ( وبعد التطور الذى لحق بالاسطورة فيما بعد صعد الى السماء) .
انجبت ايزيس الأبن الالهى حورس ، وقامت برعايته وتنشئته واخفاؤه عن عيون عمه الشرير ست الذى حكم المملكة بعد اوزيريس ، حتى بلغ مرحلة الشباب ودخل فى صراع دامى ضد عمة الشرير ست وانتقم لأبيه واستعاد منه حكم البلاد ( ويلاحظ ايضا ان ” ست ” الذى كان رمزا للشر فى المملكة المصرية تطور فيما بعد الى ” سيت ” أو سيتان ُ ” شيطان ” واصبح الها للشر والصحراء التى يسكنها البدو حيث نظر المصرى القديم الى البدوى بأنه صنو للشيطان ، ومازالت ” سيناء ” حتى الان تحمل هذا الاسم ، حيث اطلق عليها المصري القديم اسم ” سيترويت ” اى مساكن الشيطان )
وتنتهى القصة الى ان الحبيب اوزيريس سيعود فى آخر الزمان ليملأ الارض عدلا بعد ان ملئت ظلما وجورا ( ويلاحظ ايضا ان فكرة المهدى المنتظر او الامام الغائب او المسيح القادم كلها امتدادا لهذه الفكرة المصرية القديمة )
وبالاضافة الى الملاحظات التى اوردتها بين مزوجتين تعليقا على احداث الاسطورة ، الا ان مايهمنى فى الاساس هو دور المرأة الذى كانت محور الاسطورة والتى نلاحظها فى :
ان الزوجه هى فى نفس الوقت الأخت والام ( ترميزا لعصر المشاع الاول )**
**ايزيس تعيد زوجها اوزيريس الى الحياة ( ترميزا للمرأة بصفتها مانحة الحياة)
** تقوم بحماية وتنشئة ابنهم حورس للانتقام من عمه الشرير ست (رمزية
للأم الكبرى فى بداية المراحل الاولى للانسان فى وادى النيل، فهـى الزوجة والاخت والحامية والمربية والام الكبرى )
** حورس هنا والذى اعتلى عرش مصر هو رمزية بداية سلطة الرجل فى الحكم والالوهية بدلا من السلطة المطلقة للمرأة ، مع احتفاظ المرأة بدورها فى الحماية والرعاية (((هذه الاسطورة المصرية دخل عليها الكثير من التعديل فى الفكر المصرى خلال اكثر من الفى عام حتى ارتفع اوزيريس الى السماء واصبح شريكا لمجمع الآلهه وبهذا ادخل معه عامة الشعب الى مملكة السماء التى كانت حكرا على الملوك ))) .
وظلت المرأة المصرية على هذا الحال تمثيلا حيا لاسطورة ايزيس طوال التاريخ المصرى ، بنت ثقافة النهر والزراعة ، بنت ايزيس الحامية والراعية والأم الكبرى ، وتميزت المرأة المصرية عن كل ماعداها من نساء الشرق وحتى الان بهذا الدور حتى اننا وحسـب الاحصائيات الرسمية نعرف ان 25 % من عائلات مصر تعولها نساء ، وهى نسبة لاتتوفر فى اى دولة اخرى من دول المنطقة، هذا عدا النساء التى تشارك فى اعالة الاسرة مع ازواجهم والتى لاتقل فى نظرى عـن 60% .
ونرى فى النقوش المصرية القديمة وجودا كاملا للمراة بجانب الرجل فى كل المجالات ، فى الزرع والحصاد ،حتى اعمال البناء الشاقة نراها خلفة تناول له الطوب ( الآجر ) ومونة تثبيت الطوب ، وفى حفلات السمر يشترك الرجال مع النساء فى الرقص والغناء وهى احدى سمات المصرى القديم ومخزونه الثقافى .
ورغم ظهور الملوك ابناء السماء الا اننا نعرف ان حقهم الملكى فى وراثة الحكم يأتى عبر سلسلة النسب الامومى ، فوراثة العرش كانت للاميرات ولذا كان على الفرعون الجالس على العرش ان يتزوج منها لتنتقل اليه شرعية الملك ، وعبرتاريخه الطويل الذى استمر قرابة اربعة آلاف سنه وصلت العلاقة بـــــــــين الرجل والمرأة مرحلة حضارية فى المساواة لم يصل اليها الغرب الليبرالى الا منذ خمسون عاما او يزيد .
ـ ففى احد صكوك الزواج الذى يعود تاريخه الى الالف الثالث قبل الميلاد يقول الزوج موجها كلامه الى سيدة المستقبل :
( منذ اليوم ، اقر لك بجميع الحقوق الزوجية ، ومنذ اليوم لن اتفوه بكلمة
تعارض هذه الحقوق ، ولن اقول امام الناس انك زوجة لى، بل سأقول
بأننى زوج لك ، منذ اليوم لن اعارض لك رأيا ، وتكونين حرة فى غدوك
ورواحك دون ممانعة منى ، كل ممتلكات بيتك لك وحدك ، وكل مايأتينى
اضعه بين يديك )
ـ وبعد الفى عام من هذا الصك ، نجد امرأة فى صك آخر يرجع تاريخه الى الفترة البطلمية تقول لزوج المستقبل :
( اذا تركتك فى المستقبل لكرهى لك او لمحبتى رجل آخر فاننى اتعهد بأن ادفـــــــــع
مكيالين ونصف من الفضة واعيد اليك هدايا الزواج ).
منذ خمسة آلاف سنه يأتينا النص الاول ليؤكد التساوى بين الرجل والمرأة ، ومن اكثر من الفى عام يأتينا النص الثانى الذى يعطى للمرأة فى مرحلة تطورية اخرى بلغت قمة النضج الاجتماعى من الشفافية والصدق من المرأة تجاه الرجل ، ويعطيها الحق فى خلع الرجل نظير تعويض مالى للرجل .
ماذا نقول عن العظمة التى وصل اليها الفكر المصرى القديم فى العلاقة الزوجيه والتى اصبحت بعد اكثر من ثلاثة الاف عام علاقة ملكيه يكرسها عقد نكاح بين فحولة رجل وتبخيس انثى .
فعندما دخل السادة العرب فى احتلالهم الميمون لمصر لم يألفوا فى حياتهم
بالجزيرة العربية وجودا للنساء بجانب الرجال والتساوى معهم ، والتى كانت فى منظومتهم الثقافية نقيصة فى الرجل ، وتحليلا للموقف يتحفنا المؤرخ المقريزى تفسيرة لهذه الظاهرة بالحكاية التالية : ( تم هلاك جميع الرجال المصريين زمن قدماء المصريين مع فرعون مصر اثناء مطاردتهم للنبى موسى ولم يبقى الا العبيد ، ولما لم تسطيع المرأة الصبر على الحياة دونما علاقات مع الرجال طفقت المراة تعتق عبدها وتتزوجه وتتزوج الاخرى اجيرها ، وشرطن عليهم الا يفعلوا شيئا الا بأذنهم فأجابوهم الى ذلك فكان امر النساء على الرجال . واعتبر المقريزى ان ظهور النساء على الرجال هو نقيصة فى المصرى ونافية للرجولة عكس السيد العربى الذى يتمتع بالدماء الحارة والغيرة الشديدة على النساء الى حد منعهن من الخروج والاختلاط بالرجال وتحجبهن عن الناظرين ، ومن يومها كما يقول المقريزى ان نساء مصر يسيطرون على الرجال ، وان السبب فى سواد بشرة المصريين هى نتاج تزاوج العبيد مع النساء
، وربما كان هذا ايضا فى نظره تفسيرا لعدم وجود العبيد فى مصر) المقريزى : المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ص39
والى الآن فى الريف المصرى الذى ظل نقيا من الوجود العربى نرى الفلاح المصرى لايقطع امرا مصيريا الا بمشورة زوجته ونستمع الى الآن عبارات مثل ” شاور الجماعة ” أو ” اشور الجماعه ” ويعنى بالجماعه المرأة فى البيت ، وهى عبارات تخلو منها القرى ذات الوجود العربى او العائلات ذات الاصول العربية .
ومازلنا فى الريف المصرى وحتى الآن نردد قولين متناقضين ، كل منهم يعبر عن ثقافة مختلفة عن الاخر : فنقول ” الخال والد ” وفى القول الآخر ” الخيال خيال ” ، لنجد ان القول الاول يعبر عن ثفافة المجتمع المصرى الامومى الخالص، حيث الام هى مصدر الشرعية فى عصر المشاع ، وفى حالة وفاتها يتولى الاخ رعاية الابناء ، ولكن فى القول الثانى سخرية من القول الاول ، فالخال هو مجرد خيال مآته فى نظر الثقافة الوافدة من جزيرة العرب التى لاتعترف بالمراة الا لكونها مجرد وعاءا لبذرة الرجل ومن الطبيعى فيه ان يكون العم فى هذه الحالة هو الاساس بعد الوالد وتنتقل الصلة بين الام وابنائها الى صلة العصب عبر ذكورية الاب بديلا عن صلة الرحم فى الزمن الامومى .
والى الحلقة القادمة من هذا البحث .