لغة عربيّة.. رياضيات.. لغة إنجليزيّة.. بهذه المواد يبدأ الطالب المدرسي في المرحلة الإبتدائيّة أولى خطواتي التعليميّة، يُضاف لهم مادة العلوم والدراسات الإجتماعيّة بعد ذلك، وربما لغة فرنسيّة حاليًا. ولكن تظلّ هناك مادة واحدة لا يتغيّر محتواها مهما تقدم العُمر، بل يظل المنهج هو هو، ويُشرح بنفس الطريقة إن كان هناك شرح من الأساس، ويُنتظر منا نفس الفهم والتلقي وعدم التساؤل، تلازمنا هذه المادة في المرحلة الإبتدائيّة والإعداديّة والثانويّة.. إنها مادة الدين.

نفس المنهج لم يتم تغييره ولا مراجعته مع تقدم السنوات، لم يتم مراعاة أن هناك إختلاف وتعدد طائفي مسيحي وفرقي إسلامي، بل على الأقل لا يتم مراعاة من لا دين له أو يؤمن بدين آخر غير هذه الأديان، أو على الأقل احترام أي طالب لا يود إدخال هذه الأفكار في رأسه منذ الصِغر بهذا الشكل الفج. بل الأمر راجع لمزاج وهوى رجال التربيّة والتعليم في وضع المناهج الدينيّة، وأستاذ الحصة الذي يفسر ويشرح ويأول كل موقف بحسب مرجعيته الخاصة، وللآسف الطلبة في هذا السن لا يملكون أي معرفة أو خبرة تمكنهم من مراجعة أو نقد أو الرد على ما يقال لهم، بل يتم إبتلاع كل كلمة من الأستاذ وكأنها الحقيقية المطلقة!!؟ كمثل فعلهم في باقي المواد الأخرى التي وضعت لتحفظ وتُصمّ لا تفهم وتناقش.

في أحسن الأحوال مادة الدين لا تقدم أي جديدٍ يُذكر للطلبة، فالحصة المُعطاة هي هي ما يحصلون عليه في البيت وسط أسرتهم، وفي دروس العِشاء في المسجد وفي مدارس الأحد الكنسيّة، بل ويتم الإضافة إليها والحذف منها والتعديل في محتواها، بما يوقع الطالب في حيرة عندما يقارن كل ما هو يندرج تحت إسم “مادة دينيّة“. وتظهر المشكلة حينما نعرف أن إجمالي درجات المادة لا يُضاف إلى المجموع آخر العام الدراسي، إذن ما جدواها!!؟. هي مجرد مادة شكليّة تكميليّة دليل على حُسن نيّة الإدارة التعليميّة وتدينها، فالمادة لا يُخصص لها مُدرس مُستقل، وإجمالي حصص المادة لا يتعدى عشرة حصص في الأسبوع للمرحلة الإبتدائيّة ككل، فالمادة من بساطتها لا تحتمل إعطاء دروس أو مُذكرات أو محاضرات توضيحيّة، يقوم بتدريِسهَا مُدرس اللغة العربيّة حافظ القرآن أو الأزهري للمسلمين، أو مدرس اللغة الفرنسيّة أو العلوم يقوم بتدرسيها للمسيحيين، وذلك من خلال قراءة العناوين وشرح الموضوعات فوريًا دون الرجوع لمراجع أو كشكول تحضير، فالمادة مُلحق لزيادة المرتب بالنسبة له ليس أكثر. وقد حضرتُ بنفسي في حصة الدين العديد من المواقف التي مهما مرّت السنوات لن تُمحَى بسهولة من ذاكرتي.

في المرحلة الإبتدائيّة، في فصلنا كما في مدرستنا ككل، كان عدد الطلبة المسلمين يفوق عدد الطلبة المسيحيين كالعادة، وأثناء حصة اللغة العربيّة جاء مدرس آخر أول مرّة نراه وقف خارج باب الفصل وإبتسم لأستاذ عبد الرحمن مدرس الحصة وقال” إبعتلي الطلبة بتوعي”، وهنا إلتفت “عبد الرحمن” إلينا نحن الطلبة وقال ” الطلبة اللي مش مسلمين ينزلوا تحت مع أ/أمين عشان حصة الدين بتاعهم”، هنا تساءلت كطفل صغير بحسب عقلي الصغير “هو ليه إحنا اللي ننزل وهمّا اللي يفضلوا في الفصل!!؟، ويعني إيه (الطلبة اللي مش مسلمين) هو مكسوف يقول علينا مسيحيين!!؟”، وبدأ يظهر في داخلي تقسيم نحن وهم، مسلم ومسيحي، نحن أقل وهم أكثر، هم أصحاب الفصل ونحن ضيوف عليهم. ولكن طالما الدين واحد من الرب الواحد، ورسالته واحدة هي الحب والخير والسلام، فلماذا الفصل بيننا إذن!!؟. وظلّ السؤال يؤرقني طوال الليل يومها.

في الأسبوع التالي، أتت حصة الدين ولكن لم يأت المُدرِّس، سألنا عنه قالوا أنه غائب اليوم، فظلّ الطلبة المسلمين في الفصل كما هم، ونزلنا نحن ليتم تجميعنا مع طلبة كل الفصول ليجلس أكثر من 200 طالب مسيحي داخل فصل واحد على الأرض لنأخذ حصة الدين مع أستاذة العلوم “أبلة مريم” التي تطوعت لتعطينا الحصة، والتي كانت مجرد ترديد لمجموعة من الترانيم الكنسيّة لا علاقة لها بالمنهج من قريب أو بعيد، ولكن “أبلة مريم” انشغلت بتحضير ورق للمجموعات والدروس الخاصة بمادتها، ولم تهتم بنا في المرّات القادمة، فكانت حصة الدين بالنسبة لنا مجرد حصة ألعاب وفراغ في ملعب المدرسة، ولكن كان أصدقائي المسلمين يحسدوننا على جمال ورقة إبتسامة “أبلة مريم” مقارنة بوجه “أ/ عبد الرحمن” العبوث ذو اللحيّة المُرسلة وزبيبة الصلاة التي تغطي نصف جبهته وكأنها أثر لحرقٍ قديم!!؟.ـ

بعد ذلك أثناء نزولنا لحصة الدين، فوجئت بصديقي “مصطفى” نازل بجواري على درجات السُلم مبتسمًا لهروبه من حصة الدين، وذلك من خلال رسِمه لعلامة الصليب على مِعصم يده اليمنى بالقلم الجاف لأننا طلبة إبتدائي نستخدم القلم الرصاص فقط!!؟. وقد برّر “مصطفى” فعلته هذه ببراءة طفوليّة لا تخلو من الحكمة قائلا “في البيت بيحفظونا قرآن… وفي المدرسة بيحفظونا قرآن.. وفي المسجد بيحفظونا قرآن.. أنا زهقت من كتر الضرب فيا عشان مابحفظش وعاوز أرتاح وألعب شويّة بقى.. أنا أخدت بالي أنكم مش بتاخدوا حصة دين زينا.. وبتنزلوا تلمُوا الزبالة اللي في حُوش المدرسة… فقلت أنزل معاكم ونلعب سوى”. وقد تركت هذه الجملة، رغم عفويتها، العديد من الخطوط العميقة في ذاكرتي.ـ

ذات مرّة همست لي الطفلة “بسمة” صديقتي المسلمة في ذلك الوقت، إنها تريد النزول معنا في حصة الدين المسيحي، فإندهشت من طلبها، ولكنها أكملت جملتها قائلة بغضب ” الأستاذ في الحصة بيقول لنا أن أهلنا هيدخلوا النار عشان سايبنا من غير حجاب أو نقاب وأنا زعلانه بجد أن بابا وماما يتقال عنهم كدا.. وكمان الأستاذ بيفصلنا في حصته ويقعّد الصبيان مع بعض قدام والبنات مع بعض ورا.. وبعد الحصة نرجع نقعد في مكاننا تاني جنب بعض”. موقف غريب في مدرسة حكوميّة، ليست أزهريّة أو دينيّة، إكتشفتُ من خلاله أن التعليم كالماء والهواء ليس لأهميته لإستمرار الحياة، ولكن لأنه تلوث بمواد سامة قاتلة!؟.ـ

في أحد المرّات نسيتُ النزول لحصة الدين المسيحي، أو ربما تعمدتُ ذلك لأني مللت من جمع القمامة من “حُوش المدرسة” أو الطواف بنا على الفصول الأخرى ليستضيفنا أي مدرس وكأننا لاجئين!!؟. قررت البقاء داخل الفصل للإستماع لما يقوله أستاذ الدين الإسلامي “عبد الرحمن”، والذي لم يلحظ وجودي، وبدأ كلامه الإنشائي الخطابي الرصين الذي يشبه خطبة الجمعة، وحدثنا بإسهاب عن قتل الكفار بلا شفقة أو رحمة ونحن في هذا السن!!؟، وعن عدد الرقاب التي أطارها بطل الإسلام خالد بن الوليد، وعن ثواب عدم مخالطة الكفار وتجنب الكتابيين الذميين في الحديث والمعاملة، وختم كلامه بحكايّة “آبرهة الحبشي” ذلك النصراني الكافر الذي يكيد للإسلام ويريد نشر النصرانيّة دين الشِرك من خلال إغراء الناس بالمال والذهب لأنها ديانة غير قادرة على إقناع طفل صغير بالحجة والبرهان!!، فجمع “آبرهة الأشرم” جيش من الأفيال وهجم لهدم الكعبة، فأرسل الله عز وجل طير الأبابيل تلقيهم بحجارة من نارية من جهنم، فنصر الله الإسلام دين الحق على النصرانيّة دين الشِرك والباطل!!.. إنتهت الحصة وأنا أشعر بمدى الإهانة التي تعرضتُ لها، وتعرض لها ديني، ومندهش من هذا الكلام الكريه الذي يُدرَّس لزملائي، هل أتجنب زملائي لأنهم يحملون هذا الفكر والتوّجُه الآن!؟، هل كلهم يؤمنون بهذا الكلام وسيقتلوني يوما ما!؟. دارت هذه الأسئلة في رأسي الصغير في ذلك الوقت، وفي اليوم التالي فوجئت بهذا المُدرس يناديني بإسمي في حصة اللغة العربيّة وطلب مني إنتظاره خارج الفصل، خرجتُ من الفصل وأنا خائف أن يقتلني لأنني مسيحي كافر، ولكنه أتي ووقف بجواري وإبتسم كاشفًا عن أسنانه الصفراء وقال بصوته الخشن “أنا عرفت يا حبيبي أنك حضرت بالغلط حصة الدين الإسلامي معانا إمبارح… على فكره أنا كنت بحكي للطلبة قصص وحواديت مش ليها علاقة بالدين عندنا خالص… ياريت مش تقول حاجة لبابا أو ماما في البيت عن اللي سمعته هنا… الإسلام مش كدا… فاهم يا حبيبي”، وطبعًا احتفظت بالسر داخلي لم أنطق به لأي مخلوق خوفًا من أن يتم قتلي!!؟.ـ

مادة الدين لا أطالب بتعديلها ومراجعة محتواها أو تخصيص مدرس خاص بها يخضع لرقابة وإختبار مهارات، بل علينا تجميع التوقيعات والضغط على وزارة التربيّة والتعليم لحذفها من المواد الدراسيّة المُقررة، وإستبدالها بمادة للرسم أو الموسيقى أو التوعية الصحيّة والسياسيّة بمنهج يتلائم حسب وعي وفهم كل مرحلة وكل صف دراسي. الدين الحقيقي لا يُعلّم، بل هو تجربة روحيّة فرديّة خاصة بكل شخص في كل مرحلة حياتيّة، هل يُعتبر الراسب في مادة الدين كافر أو خارج عن الملّة لأنه فشل في الإجابة!!؟، تدريس مادة الدين يأصِّل إغتراب الطلبة عن واقعهم، ويؤسس حالة من الفُرقة والتمايز بينهم منذ الصِغر، وينمي مشاعر الكراهية والبغض بين الطلبة، إنه شكل آخر من محاولات التعبئة والتبعيّة لإخصاء الأطفال منذ الصغر