تصوير بِزاڤ محمود

قالت لي كُردستان ذات مرة، ذارفة الدمع، “يُنقض وجودي، وتُنكر هويتي من قِبل مضطهديي. أُعامل مثل كوم من النفايات من قبل أتباعهم، يُسخر مني، يُتحرش بي، وأُقتل في اليوم مائة مرة على أيدي أولئك الذين لا يتفهمون كوني إنسان.”

“أعرف!” أجبت بتفهّم… “أنت مظلومة لأنك كُردستان… ومضهدوكِ هم تركيا، إيران وسوريا.”

“لا، ليس الأمر كذلك.” هزّت رأسها بعنف، ثم تنهدت قائلةً: “أنا مُضطهدة كوني مثليّة الجنس، ومضطهدي ما هم إلا أبناء جلدتي: الكُرد أنفسهم!”

أحمد يلدز – زهرة أبي العرق

ذات مرة، قال مناضل في سبيل الحرية:

“كُردستان هي حديقة، حيث كل زهرة لها لونها ورائحتها الخاصة. التنوع يجعل الحديقة أكثر روعةً وبهاءً.”

كان أحمد يلدز زهرة يانعة في هذه الحديقة المثمرة – كان أبا العرق؛ الزهرة الأرجوانية التي تمثل القوة والشجاعة. لم يكن يلدز فقط كرديًا من ريها، التي يعيش معظم سكانها في ظل النظام التركي المنتهك لحقوق الإنسان، بل كان مثليَ الجنس كذلك.

كان يحب عائلته ولكنها لم تقبله كونه مثليّ الجنس. انتقل للعيش في إسطنبول أينما يمكنه أن يكون صادقًا وغير متحفظًا بشأن ميوله الجنسية، بالرغم من أنه حتى في إسطنبول، لا يحظى مجتمع المثليين (مثليات، مثليون، ثنائيو الجنس، والمتحولون جنسيًا) بمعاملة مساوية لنظرائهم الغيريين.

عرضت عائلة أحمد عليه أن يعود أدراج بلدته لمعالجة “مرضه” (ميوله الجنسية) من قِبل طبيب وإمام مسجد، والزواج من فتاة. بيد أن يلدز رفض هذا العرض رفضًا قاطعًا – فلماذا يقمع شخصًا ما هويته؟ وكيف يمكن لإنسان أن يكون ظالمًا لنفسه؟

لم تتقبل عائلة يلدز رفضه بسهولة، فما فتأت تهدده. في عام 2008، شعر أحمد بالخطر، فارتاد النيابة العامة التركية مضطرًا لإبلاغهم عن تلقيه تهديدات بالقتل من قِبل أفراد عائلته، ولكن لا يبدو أن السلطات اتخذت الأمر على محمل الجدّ.

في 15 يوليو/تموز 2008، خرج أحمد لشراء آيس كريم في فترة راحته أثناء الاستذكار، حيثما أُطلق عليه رصاص الغدر، وعندما حاول بلوغ سيارته للفرار من المعتدين، اصطدم في حادثة نظرًا لإصابته، وتوفي أحمد يلدز في وقت لاحق في المستشفى.

لم يحضر أي فرد من عائلة يلدز لاستلام جثته من المشرحة، بحسب أصدقائه، في دلالة واضحة على إنكار عائلته لنسبه. يُردد أن والده، المُشتبه فيه بقتل أحمد للحفاظ على شرف العائلة، قد غادر تركيا  هربًا للعراق.

إضطهاد الكُرد لكُردستان

لا يدرك أحد كنه الظُلم مثل الكُردي. الكُردي التي قد تُنكر هويته – مثل أحمد يلدز. وتُنتفى حقوقه – مثل أحمد يلدز. ويتم التعامل معه وكأنه منبوذًا – تمامًا مثل أحمد يلدز.

كيف يجرؤ منبوذ على اضطهاد منبوذ آخر؟ لقد توجّب على أحمد يلدز أن يتحمُّل ثُقل التمييز في تركيا مرتين على كاهله؛ مرة على أساس العرق، ومرة ثانية على أساس الميول الجنسية. كيف يجرؤ كُردي على الانضمام لصف النظام التركي في اضطهاد كُردي آخر لمجرد أنه مثليّ/ة الجنس؟

“إن الحرية طيبة المذاق مثلما رُمانة من ئامەد (دياربَكر).” هكذا يردد الكُرد، “نريد فقط أن نتحرر. نريد حرية! حرية! آزادی!”

لقد ذوت الكلمة وفقدت بريقها – ذاك الحرية المنشودة، وهي قلّما تُستخدم بين الكُرد. ذبُلت وسقطت أوراقها تدريجيًا في خريف التمييز العرقي والجنسي. حرية كُردستان لا تُعني فقط حرية الكُرد، بل حرية البشرية بأسرها. قد سبق وعرّفت كُردستان على النحو التالي:

“لا يُقتصر على عرقك فقط كي تُصبح كُرديًا. كُردستان هي الحرية لأنها لا تحدّها حدود، وأولئك الذين يقاتلون من أجل الحرية في أي مكان على الأرض هم كُرد ولا شك.

“لكي تكون مناضلًا من أجل الحرية يُعني أن تكون حيًّا في معترك الحياة. الخوف من الموت سيضطرك للخلود للراحة؛ تقبيل الأرض بهدوء، وضع خدّك على لحاء خشن لشجرة ظليلة، وتوسّدك لطُحلُب زكي العبير.

“البقاء على قيد الحياة هو مفهوم فشل بقيّة العالم فشلًا ذريعًا في إدراكه، لأن الراحة والآمان لا يُعنيان سوى كونك ميتًا. أنت ميت إذا كان مذاق حياتك الأبرز هو كاڤيار ونبيذ. ولكنك حي، بكل تأكيد، إذا كان مذاق حياتك يختلط بطعم العَرَقِ المالح الذي يتبخر من جسمك عند القتال في جحيم الحياة.

“يشمل هذا التعريف كل من يحارب من أجل الحرية. أي محارب من أجل الحرية حول العالم هو كُردي. كل كُردي هو مناضل في سبيل الحرية بالفطرة. وكل مثلي، ثنائي، أو متحول الجنس يناضل من أجل حقه الأصيل في أن يكون نفسه بلا مساومة هو مقاتل من أجل الحرية، وهو، وفقًا لذلك، جزء لا يتجزأ من كُردستان الكبيرة.”

عندما أُسائل كرديًا عما يعتقده تجاه الأفراد ذوي الميول الجنسية المختلفة، يقطّب جبينه ويجيب: “هذا ليس طبيعيًا. هذا مغاير لإرادة الله والكون.”

إذا كان الله حقًا لم يرد للمثليين بالوجود على هذه الأرض، فهو بالمثل لم يُرد للكُرد كذلك على أي حال. إن الكُرد والمثليين يتشاركون في صراع البقاء نفسه: الحق في الوجود والهوية. إن كلاهما يُعدَّان من سكان الدرجة الثانية من قِبل سكان العالم، وكلاهما يناضل حتى الموت من أجل الحرية في أصدق، أنقى وأعذب أشكالها – الحرية. الحرية التي يغضّ عنها العالم طرفه.

إذا كان التمييز على أساس الميول الجنسية مستشريًا بين الأجيال الكُردية كبيرة السن، فإن الشباب الكردي، وخصوصًا في بلاد المهجر، يُعد أكثر انفتاحًا وتقبلًا. ولكني لا زلت أشعر بالدهشة والاشمئزاز في آن حالما أسامع بعض الشباب الكُردي يدّعون دعم حقوق مثليي الجنس، ولكن في الوقت يستدركون بأنهم لا يمكنهم أن يصادقوا المثليين أو يختلطوا بها!

سبب دهشتي هو أن موقف بعض الشباب الكُردي من قضية المثليين هو دليل دامغ على جهل هذا الشباب بكنه النضال الكُردي: الاعتراف بحق الفرد في أن يكون نفسه؛ حق الوجود والبقاء والتقرير بالهوية التي يرتضيها الفرد دون غيره. أمّا سبب اشمئزازي هو أن المثلية الجنسية، أو ما عداها من ميول جنسية، لا ينبغي أن تكون قضية جدلية على المرء أن يتصالح معها، بل هي شيء طبيعي تمامًا مثل التنفّس والأكل – هي الحب، والتنكّر لهذا الحب يُعدّ خطيئة. اسأل المتدينين، الذين غالبًا ما يستخدمون كلمات الله باعتبارها سببًا أساسيًا لإقصاء التوجهات الجنسية الأخرى، إذا كان التنكّر للحب ليس خطيئة!

علّق وزير تركي في عام 2010 أن المثلية الجنسية هي مرض. وهذه ليست مفاجأة أن يصرّح مسؤول تركي بجملة تمييزية من هذا القبيل؛ لأنه معروف انتهاك الدولة التركية لحقوق الإنسان. الطامة تكمن في أن بعض الأفراد داخل المجتمع الكُردي يشاطرون الحكومة التركية هذا الاعتقاد، بدعوى أن المثلية الجنسية هي شذوذ عن الطبيعي وخروج عن المألوف، وأنه لا يجدر أن يُمارس الجنس إلا رجل وامرأة، بحجّة أن الأمر كان كذلك دائمًا ويجب أن يستمر.

هذه الفكرة التقليدية بعيدة كل البُعد عن عالم اليوم. إن غاية الإنسان منذ قديم الأزل هو بقاء الجنس البشري، فأضحى التناسل حافزًا لتأمين هذا الهدف، وأصبح تكوّن عائلة من رجل وامرأة هي الوسيلة الوحيدة لتحقيقه. تكوين العائلة يؤمّن للجنس البقاء على قيد الحياة من خلال طريقتين: العيش في مجموعات للحماية، وإنجاب أطفال للتكاثر. اليوم، لا يجدر بالفرد تكوين أسرة مُرغمًا من أجل البقاء أو الحماية، وبالنسبة للأطفال، فيمكن الحصول عليهم بطرق أخرى كثيرة لا تنطوي على الزواج، ولا تُعتبر “شاذة” على أي حال.

المثلية الجنسية ليست مرضًا، بل المرض الحقيقي الذي يضرّ بالإنسان، هو اعتقاده بأنها مرض.

مسؤولية الشباب الكُردي

خلال الأشهر القليلة الماضية، كررت مع غيري من الكُرد، ومنهم الصديق عز لي ڤريم، جملة: “أنا هنا.” وينطبق هذا تمامًا على مثليي الجنس كذلك. مثليو الجنس هنا، مثليات الجنس هنا، مزدوجو الجنس هنا، والمتحولون هنا أيضًا. إنهم يدعمون النضال الكُردي من أجل الحرية، وكذلك ينبغي على الكُرد دعم نضالهم من أجل الحرية.

أنا لا أطلب من الشعب الكُردي، عبر مقالتي هذه، بقبول مجتمع المثليين الكُرد فقط، بل أطالبهم بقبول، تفهُّم، ودعم كل إنسان يتوق للحرية.

لمّا يناضل السياسيون والناشطون من أجل الشعب الكُردي، لا ينبغي أن يكون النضال من أجل التمييز العرقي فقط، بل أيضًا من أجل التمييز الجنسي، بل وكل أوجه التمييز الأخرى. الحرية هي الحرية، وهي مبدأ لا يتجزأ، ولا يجدر بالكُردي أن يطالب بالحرية، وفي نفس الآن، يتنكّر لحق المثليين أو غيرهم/ن في التعبير عن ميولهم الجنسية بحرية.

كل كُردي مسؤول: لا تدعو للحرية فقط، ولا تناضل من أجل الحرية فقط، بل ادعم حرية كل المضطهدين الذين يعانون من جرّاء الحيف مثلك.

تذكر ما قاله مناضل كُردي في سبيل الحرية يومًا:

“كُردستان هي حديقة، حيث كل زهرة لها لونها ورائحتها الخاصة. التنوع يجعل الحديقة أكثر روعةً وبهاءً.”

اعمل وفق لهذه الرؤية، أو سوف تعتبرك كُردستان سببًا في فُرقتها:

“لقد مشيت ذهابًا وإيابًا عليّ، وسحقت ورودي الحمراء، هندبائي الأصفر، وعشبي الأخضر في إثر دهسك المستمر. لقد ادّعيت الدفاع عني، ولكنك في الواقع ألحقت بي مزيدًا من الألم أسوأ من عدوك الخاص.”

المقالة مُتاحة بالإنكليزية على موقع “تحالف الدفاع من أجل حقوق الكُرد” هنا.

أنشئ حسابًا وتفاعل بالعربية والإنكليزية على موقع أهواء الآن!