منذ عقود في بلادي والعديد يرددون مصطلح “الإسلاميين” والمشروع “الإسلامي” ويتم طرح هذا المشروع كما يبدو من اسمه انه مشروع احياء لمعالم الاسلام وشريعة الله التي أنزلها على سيدنا ومولانا خاتم النبيين لتكون هدى للناس ومنارة للبشر يهتدون بها وسط ظلمات هذه الدنيا .. ومن الطبيعي ان ينتمي فورا أي مسلم يؤمن بدينه ونبيه وقرآنه إلى هذا المشروع وإلا يكون من البديهي انه يناقض نفسه..

ولكن على ما يبدوا -بل وهو الحق- أن الإسم وحده لا يكفي أبدا كدليل انتماء أو صلة بالمقتبس منه الإسم .. فليس ضروريا أن يكون اسم مسيحي معناه متبع المسيح حقا وليس بالضروري ان يكون معنى مشروع مصري أنه مصري فعلا وهكذا .. فاطلاق مسمى على أي مشروع لا يجب ان يقود الانسان لأي دلالة وإنما فحوى هذا المشروع ومبادئه هي التي تحدد انتماء هذا المشروع ورؤيته ..

ونحن الآن بصدد مشروعا سياسيا واجتماعيا كبيرا وبه كثير من المدراس والاتجاهات ،يطلق على نفسه مشروعا إسلاميا إلا أننا حين نتأمل بدقة وبحياد معالم هذا المشروع نجده بعيدا عن الإسلام الذي نعرف مقاصده وغاياته..

وهنا ننطلق من عنوان عريض .. “المشروع الإسلامي في مصر يهدف إلى تطبيق الشريعة”..

هذه الجملة رائعة وقد لا يختلف حولها مسلم مع مسلم آخر ولكننا نتدوالها دون أدنى تفكير وتعقل ،فلكي نقرر صحة هذا العنوان وتدعيم التفاصيل الواردة تحته يجب على كل شخص فينا أن يقوم بعمل 4 بحوث عميقة في أربع محاور رئيسية يحتوي عليها هذا العنوان وهي على التوالي “مشروع – إسلام – مصر – شريعة” ثم يبدأ في قراءة كل ما تحت هذا العنوان لكي يستطيع تحديد ما إذا كان المحتوى يعبر عن العنوان أم أنه عنوان لمحتوى لا يمت له بصلة.

- البحث الأول حول كلمة مشروع: ونقصد بالطبع هنا مشروع سياسي وحضاري للنهوض بوطن ..  يقول أرسطو أن السياسة هي علم السيادة وتعرف السياسة أيضا بأنها فن الممكن وبشكل أكثر تبسيطا هي فن ادارة الأمور على اطلاقه .. أما الحضارة فهي طريقة حياة نشأت بعد أن بدأ الناس يعيشون في مجتمعات منظمة ،ويعرفها ابن خلدون بأنها “التفنن والترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه” .. أما كلمة مشروع فهي تعني “رؤية كونية + أيدولوجية” أو كما يقول علماء المعرفة وصف الواقع كما هو كائن بشكل سليم + تحديد ما ينبغي أن يكون بناء على هذا التصور للواقع . فيتكون مشروع..

وبالتالي لكي يطلق على أي مشروع سياسي وحضاري انه مشروع سياسي وحضاري يجب ان تتوفر فيه العناصر السابقة مجتمعة “رؤية كونية سليمة + ايدولوجية “يعني أحكام تطبيقية” ويكونان مرتبطان بموضوع المشروع وهما كيفية ادارة الأمور وكيفيية صنع طريقة حياة..

ولأنني لن اخوض في بحث عميق وإنما أشير سريعا أنه يجب أن يحوي رؤية سياسية مكتملة “نظام حكم واضح المعالم مختلف عن الانظمة المتاحة والمعروفة + نظاما تشريعيا مكتملا مختلف عن طرق التشريع المعروفة + نظاما اقتصاديا واضح المعالم ومختلف عن الانظمة الاقتصادية المتاحة ” هذا من جهة ومن جهة أخرى يحوي رؤية حضارية واضحة “صورة واضحة لعلاقة الفرد بالمجتمع + صورة واضحة وجلية لوضع المرأة في المجتمع + رؤية مكتملة للفن ومعناه وما يراد منه”

- البحث الثاني حول كلمة إسلام: والمقصود بالإسلام هنا هو الدين الإسلامي الحنيف .. وتعريفات الإسلام كثيرة وجمة إلا أن أبلغها ما قاله نبي الإسلام نفسه صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الشهير الصحيح

“ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، قال فأخبرني عن الإحسان قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك” ..

ولكن الواقع الذي نعيشه الآن يشير بشكل واضح جلي ان المسلمين نشأت بينهم عشرات المدارس في تفسير وشرح هذا الكلام رغم بساطته ووضوحه .. إلا اننا وجدنا اختلافات أولا في تفاصيل “أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله”، حول صفات الله والعقيدة به ورؤيته وهل له مكان ام انه لا يحويه مكان وما إلى ذلك من اشاعرة وماتريدية وإخباريين وإمامية ومعتزلة وغيرهم ، ووجدنا اختلافا آخر في تفاصيل “وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا” فوجدنا أنواعا من الفقه تبلغ الاف من الكتب تختلف في تفاصيل هذه الأمور من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة وظاهرية وزيدية وجعفرية وغيرهم ، إلا أنه رغم هذه الإختلافات اتفق جميع المسلمين حول ثلاث أعمدة رئيسة في الإسلام لا يخرج عنها مسلم وهي “التوحيد – النبوة – المعاد” واتفقوا ان غاية الدين للآخرة هو نجاة الإنسان من النار وغاية الدين في الدنيا “إقامة العدل” وإقامة العدل تتطلب بالضرورة المنطقية والعقلية “مقارعة الظلم” ، وبالتالي بالنسبة لأي مشروع يطلب بناء مجتمع ويصف نفسه إسلاميا ان يكون هدفه وغايته النهائية “إقامة العدل ومقارعة الظلم”.

- البحث الثالث حول مفهوم الشريعة: الشريعة لغويا تعني مجموعة من الأحكام والقوانين والقواعد المنظمة لأمر ما .. وهي ليست غاية في حد ذاتها وانما هي وسيلة للوصول للغاية التي جعلت من أجلها هذه التشريعات .. والشريعة هنا نقصد بها الإسلامية قطعا وبالتالي سنضيف إليها المعاني التي تحدثنا عنها في المبحث السابق ان غايتها “اقامة العدل ومقارعة الظلم” وطوال تاريخ الإسلام ومنذ وفاة النبي صلى الله عليها واله وسلم دأب المسلمون على ان يتفقه منهم البعض ويتفرغ لبحث وتطوير الشريعة بما يلائم الواقع فخرجت مدراس فقهية كثيرة اختلفت بظروف الزمان والمكان وحين نحاول أن نجمع ما اتفقت عليه هذه المدارس دون اختلاف مطلق لن نجده يملأ بضعة صفحات من كتيب “وهنا أقصد الأمور الفقهية وليست العقائدية” فأحكام الزواج والطلاق واللباس والماكل والمشرب والعقوبات وقوانين المرأة والأطفال والحضانة والبناء والامتلاك والمصادرة …الخ كانت دائما محط تغيير ولم تكن ثابتة حتى انه في بعض الأحيان كان يرد بها نصا قرآنيا فتأول او يجتهد فيها كحد الرجم وحد قطع اليد حتى حد الخمر اجتهد فيه بعض الحنفية فقالوا ليس كل مسكر خمر وان كان كل مسكر حرام .. وبالتالي طبقا للفهم الأولي لغاية الإسلام الكبرى “اقامة العدل ومقارعة الظلم” كانت الشريعة وسيلة لتحقيق هذه الغاية وليست غاية في حد ذاتها.. وبالتالي حين يطرح مشروع – إسلامي – لتطبيق الشريعة .. يجب ان يحتوي في طياته على اجتهادات فقهية وتشريعية تلائم الواقع بشكل لا يشعر معه الناس بأنهم بعيدين عن الواقع أو ان يعانون من الظلم بشكل أو بآخر ..

- البحث الرابع والأخير حول مصر: فمصر هي المكان الذي يتحدث عنه المشروع ، ومصر هي دولة يلتف شعبها حول مجرى النيل منذ الاف السنين ولا يعتبر شعبها اثنية او عرق وانما هوية يكتسبها المقيمين في أرضه بمرور الوقت ، فليس هناك اثنية او عرق جلي اسمه العرق المصري ، ومصر بلد قديم جدا جدا وشعبه قديم قدم الحضارة البشرية .. مرت عليه مئات من التجارب الحضارية والمعتقدات واللغات وذابت فيه أعراق هاجرت اليه عبر الأزمنة .. فاصبح مع الزمن حقا وصدقا شعبا ذو طبيعة خاصة ومختلفة وحساسة .. له خصوصيته فهو حين أصبح مسيحيا أضاف إلى المسيحية نكهته الخاصة التي جعلت من مسيحية مصر مختلفة عن مسيحيات العالم .. وحين اعتنق الإسلام أضاف أيضا له نكهته الخاصة التي جعلته يتميز عن الاسلام في دول أخرى في كيفية احياء طقوسه بل وحتى في تلاوة القرآن ذاته التي تميز بها المصريين عن غيرهم .. وبالتالي حين يضاف إلى مشروع إسلامي يهدف إلى تطبيق الشريعة – كلمة “في مصر” علينا أن نستشعر ذلك جليا في فحوى المشروع الذي يمس هذا الشعب.

بعد ما سبق علينا أن نتحدث سويا مع أصحاب هذا المشروع ونقرأ فحوى مشروعهم لنطبق عليه ما سبق ونقيمه لنحكم هل هو فعلا مشروع إسلامي يهدف إلى تطبيق الشريعة في مصر .. أم أنه مشروع سياسي مرقع من عدة مشاريع بصبغة إسلامية يهدف إلى الوصول في السلطة في مصر..