مع بداية حراك الغضب الشعبي والاحتجاج ونزول الشباب الى الشارع بدول عربية وامازيغية عديدة، اعتقد الكثيرون بأن هنالك معجزة حصلت، وذهبت الاغلبية في تحليلاتها وأحلامها الى ابعد من ذلك، فقد اعتقدنا اننا فعلا امام ثورة حقيقية، ستغير حياة العالم بأكمله، وستمنحنا الحرية والعدالة والديموقراطية التي لم تكن معرفتنا لها تخرج عن بضعة سطور نقرأها بكراسات التاريخ او شعارات بعض المنظمات الحقوقية، كان حلمنا على وشك التحقق على ارض الواقع، وكنا نشكر حظنا الذي سمح لنا بعيش هذا اليوم الذي كان يحلم به أباؤنا وأجدادنا.
يوما بعد يوم، بدأ الضباب في الانقشاع عن عيوننا، وأحسسنا بأن هنالك خطرا ما يتربص بنا، ابتدأ الامر منذ الايام الاولى للاحتجاج بالشارع، حينما كنا نصطدم بمحتجين اخرين لكنهم ليسوا مثلنا، لقد كانو ايضا متحمسين وفرحين بما يقع من تغيير، لكن احلامهم كانت تتجه نحو الماضي، نحو تراث وعادات وتقاليد استمرت لما يزيد عن14 قرنا لكنها لم تنتج لنا اي قيمة انسانية حرة غير الاضطهاد والقمع وقتل المخالفين ورجم العشاق وقطع الاطراف… هؤلاء كانوا يقفون الى جنبنا لكن ينظرون لنا بازدراء وكراهية، احيانا يصفوننا بالكفار والمثليين ثم ياتون الى اخواتنا اللواتي قررن كسر جدار الصمت والحديث عن معاناتهن ليصفنهن بالعاهرات… ورغم ذلك لم نختر الانسحاب من الاحتجاج او الرجوع للوراء فقد اعتبرنا ان التاريخ لن يسامحنا بعد ان اتيحت لنا الفرصة لكسر الطابوهات السياسية والصراخ وقول كفى… لكن بجانب ذلك قلنا لابد من كسر جميع الطابوهات وليس فقط هدم الصنم السياسي دونما زعزعة اركان الطابوهات الدينية والجنسية والثقافية لشعوبنا، فانهالت علينا الانتقدات والهجمات من الليبيرالين واليساريين قبل الاسلاميين، قالوا لنا اننا دعاة تفرقة، وان الوقت لايسمح بنقاش ذلك الان، وبانه يجب تأجيل الحديث عن الحريات الفردية وحقوق الأقليات الى موعد اخر لان الهم الذي يوحدنا هو ” الجوع” … قلنا لهم ليس بالخبز وحده يحيى الانسان، وانه لن نقبل بتغيير نظام دكتاتوري بأخر اسلامي مستبد، فقالو لنا: انكم موهومون وتصدقون فزاعة الاسلاميين التي يروج لها الحكام، فقلنا لهم اننا بحاجة الى بلورة قيادة حداثية تؤمن بقيم حقوق الانسان تتصدر الاحداث بتونس حتى لا تؤول الثورة الى ما ال اليه الوضع بايران والعراق والصومال والسودان… لم يقولوا شيئا بعدها وامنتعوا عن الحديث معنا بعد ان اعتبرونا خونة وجبناء ومرضى نفسيين.

بدأت الانظمة العربية في السقوط ، واهتز العالم على خبر اشعرنا بنوستالجيا جميلة الى زمن الثورات التي غيرت مجرى التاريخ بعد سنوات من القمع والبؤس واستغلال الدين في خدمة السياسة والمصالح النخبوية… سقطت انظمتنا لكن كيف سقطت؟ ولماذا؟ وما هو بديل هذه الشعوب الذي سيرسم الان ملامح مستقبلها…؟
جاءت الاجابة من تونس بعد هرب بن علي و عودة زعيم حركة النهضة الاسلامية من المنفى راشد الغنوشي وتشكيل حزبه للحكومة.. فكانت صدمتنا اكبر… كيف لشباب تونس ان يقبلوا بذلك، و تجمدت الدماء في عروقنا لما شاهدنا التيارات السلفية الاسلامية الراديكالية تحتل الجامعات وتهدد الاستاذة وتسب وتضايق الطالبات الغير محجبات وتنظم حلقات وتجمعات بالشوارع وتصرخ في مكبرات الصوت بان تونس اسلامية، وبانه يجب قتل العلمانيين والملحدين، فقالو لنا هؤلاء اقلية ولايمثلون اغلبية الشعب التونسي، قلنا ولماذا لا تقوم الحكومة التونسية بوقفهم بسلطة القانون ومنعهم من الاعتداء على خصوصيات الافراد في التفكير واللباس… ثم اكتشفنا ان الحكومة ايضا سلفية حينما صرحت بانها لن تقبل بوجود مثليين بتونس ولن تسهر على ضمان حقوقهم.
رحل مبارك الى السجن، وخلف بعده الاخوان المسلمون والسلفيون، ونواب يرفعون الاذان بالبرلمان، ومجلس عسكري يعتقل المدونين ويضرب النساء ويقتل الشباب في درامية لا تقل بشاعة عن ايام مبارك الاخيرة، فقالو لنا ان الانتخابات لم تكن نزيهه وبان الاسلاميين انقضوا على السلطة بعد مكيدة غش وقمار…
ثم رحل معمر القذافي الى جهنم، وجاءنا بعدها زعيم الثوار وقال: ليبيا اليوم بلد الشريعة الاسلامية، وللذكر حق الزواج بأربع نساء، وبعدها طالعتنا على اليوتوب فيديوهات اغتصاب نساء، وتدمير رموز دينية مسيحية واعدام لمحلات بيع الخمور وانباء عن وجود قرى تحتلها جماعات سلفية لها جيشها واسلحتها وقوانينها الخاصة.
ثم جاءت أمريكا لتبارك نجاح الثورات، وتهنئ الحكومات التيوقراطية الجديدة على فوزها… وتضرب بورقة حقوق الانسان عرض الحائط متجاهلة معاناة الاقليات والانتهاكات التي تتعرض لها كل يوم.
فقالت لنا أمريكا، ان ما يقع ببلدانكم هو تحول ديموقراطي وما علينا الا ان نباركه وننوه به، فقلنا لا انه ليس ديموقراطيا، لان اي انتقال ديموقراطي يحتاج الى توفر شروط عديدة ومهمة، من بينها بروز ثقافة مجتمعية ذات قيم انسانية كونية، تحترم الاختلاف وتؤمن بحقوق الانسان، قالت لنا لقد تم انتخابهم ديموقراطيا وذلك هو اختيار الأغلبية، فقلنا يجب مراجعة مفهوم الديموقراطية، لان هذه الاخيرة ليست عملية تقنية، وليست رمي اوراق يتيمة في صندوق ومن بعد فرزها وتحديد الفريق الرابح الذي له الحق في فعل ما يريد وفريق اخر خاسر وجب عليه القبول بكل احكام الفائز مهما كانت قاسية… بل الديموقراطية هي ثقافة احترام حقوق الانسان وضمان حقوق الاقليات ضمن حكم الاغلبية…
فالديموقراطية ليست سلم نصل به الى الحكم ثم نقوم بوضع سكاكين في ادراجه تمنع التيارات الاخرى من الوصول الى السلطة، كما يفعل الاسلاميون حينما تكون الديموقراطية بالنسبة لهم مجرد امرأة غنية يقومون باختطافها وسرقة اموالها ومن ثم اغتصابها وقتلها… .
ما لم نفهمه بعد، هو انه هنالك فرق بين ثورتنا وثورات الغرب، ثوراتنا عبثية فوضوية دينية، اما ثوراتهم فقد كانت فكرية فلسفية، تلك الشعوب عرفت طريقها للحرية عن طريق اعادة القيمة للفرد، واحترامه والقبول به وبافكاره… أما نحن فقد اغتصبنا الفرد وانكرنا حقه في الوجود… ما لم نفهمه ايضا هو انه حينما نراهن على شعب معين ونريد ان نخلص الى نتائج معينة فلابد لنا من فهمه واستيعاب ميولاته وافكاره واعتقاداته، ان الشعوب التي خرجت للشوارع لم تخرج عارية، بل خرجت ومعها برقعها وتراثها وعادتها وتقاليدها التي لا يجب انكارها بل استحضارها ومحاولة معرفة المنهجية المناسبة للتعامل معها.
ان ما نحتاجه اليوم، هو ان نعمل على تأسيس شروط خلق ثورة فكرية، نحتاج الى اعادة الاعتبار للكتب والعقل والفلسفة والمنطق، لقد هجر شعوبنا القراءة، وان قرؤا فلا تجد بين ايديهم كتابا اخر غير القران او ما شابهه… يجب معالجة شعوبنا من امراضها النفسية، يجب اقناعها اولا بضرورة الثورة ضد الدكتاتوريات الدينية التي تعيش بداخلها وتمنعها من التعايش مع العالم الاخر…
شيء اخير لكل من يقول ان عهد الرسول محمد هو الحل، بكارثية ما ورائية صعبة وخطيرة، فأقول له كيف يمكن لنا العودة نحو الخلف في عصر السفر الى الفضاء؟؟

facebook.com/Kaceeem