بورسعيد على اليمين في 1956 تقاتل ضد أوروبا و على اليسار في 2012 تقاتل ضد الأهلي !

لا أحب الكتابة عادةً عن الأحداث الآنية الحاضرة دون دراستها جيداً حتى أتجنب منهج السبوبة الكتابية و النحتاية المهنية لكن هنا أجد نفسي في إستثناء صريح فالموضوع لا يتعلق بأحداث الأمس 1 فبراير 2012 في بورسعيد بين جمهور النادي المصري و الأهلي التي أودت بحياة عشرات الضحايا بل يتعلق بالمتغيرات التي أصابت مجتمعنا المصري بقسوة عبر أكثر من نصف قرن من حكم العسكر ، تغيرات سياسية و إقتصادية ضربت مجتمعنا المصري بقسوة و تبدت في مظاهر مؤلمة على مستوى القطر كله في مظهر العنف ضد المرأة و الأقباط المسيحيين و البهائيين و العلمانيين ، هذه التغيرات المتتالية لم تظهر مرة واحدة بل تراكمت عبر مرحلتين الأولى مرحلة ناصرية سحقت الوجود السياسي و التعدد الفكري وسط الناس و الحزبية المحركة المؤثرة و الثانية مرحلة ساداتية/مباركية ألغت الكثير من المبادئ القليلة المتبقية المرتبطة بالفكرة الوطنية المقاومة للإستعمار و الملتفة حول مشروع وطني لصالح مبادئ إستهلاكية ربحية تجارية عنيفة حلت محل منظومة الأخلاق المتآكلة عملياً و التي كانت تحاول الصمود بيد الفكرة الوطنية المقاومة للإستعمار و المواجهة للعدوان ثم المحاولة لصناعة سير جديد وطني يتشبث بتلابيب محاولات العهد الناصري اليائسة ، كل هذا لم يُحدث أثر حقيقي عملي على أرض الواقع و ظل يتصاعد في إطار سلبي  فما رأيناه نتيجة و حاصل لشئ بدأ منذ عقود و ليس شئ هبط بالباراشوت علينا فجأة.

ماذا حدث في بورسعيد؟ .. ماذا حدث؟

بورسعيد نموذج بسيط لمجتمع مصري منكوب بحكم العسكر مثله مثل مجتمعات شرق أوسطية و أخرى لاتينية و ثالثة آسيوية حكمها العسكري فتعددت ظواهرها المؤلمة المخيفة و التي لم تنتهي أبداً..

*حين وقع إنقلاب 23 يوليو 1952 كانت المنظومة الاجتماعية في مصر متماسكة إلى حد واضح بفعل حالة الفقر العامة التي كانت تدفع العلاقات الاجتماعية للمزيد من الارتباط متأثرة بالفقر ثم حالة التعدد الثقافي المرتبط أولاً بالوجود الأجنبي ، كانت بورسعيد بالذات متشعبة في تلك الحالة فالفقر فيها حاضر بين الأهليين و التعدد الثقافي موجود بفعل قوات الاحتلال و الأجانب من يهود و أوروبيين و رأسمالية مرتبطة بقناة السويس بطابعها الأجنبي فكانت بور سعيد حالة نموذجية لمصر ، تصاعدت محاولات الضباط لإخراج إنجلترا من القناة و مدنها و معسكراتها بدعم أمريكي كبير يهدف لإخراج الملاك القدامى و الحلول محلهم بالشرق ، تفاعلت بورسعيد -كمصر كلها- مع المحاولات التي مرت بالمعاهدة عام 1954 ثم الجلاء 1956 في حالة وطنية ساعدت منظومة الأخلاق كثيراً بفعل الالتفاف حول المشروع الوطني.

*مع حرب السويس 1956 إنقلبت الأوضاع في مصر و بالذات في بورسعيد فإسرائيل سحبت الجيش الى سيناء ثم تقدمت إنجلترا و فرنسا للضفة الغربية فسحبت مصر قواتها من سيناء  -التي إحتلتها إسرائيل- تماماً لتنقلها لمقدمة القاهرة حتى الاسكندرية تخوفاً من غزو جديد على لجانب الغربي و تركت عملياً عبء المقاومة على ألوية مشاة محدودة في بورسعيد مع المقاومة الشعبية التي نظمها عملياً جنود الجيش الذين أصلاً من بورسعيد ، إرتفعت الحالة الوطنية و التلاحم و منظومة الأخلاق إلى السماء بفعل المقاومة و تداعيات دخول الدبابات الأنجلو-فرنسية لبورسعيد بشكل طبيعي و سلسل فكانت الحالة العقلية و الاخلاقية متميزة بالبارود الأوروبي و إستمرت الحالة إلى ما بعد الانسحاب الاسرائيلي من سيناء 1957.

*في فترة ما بين الحربين السويس و الأيام الستة إرتبطت بورسعيد بحالة -غير مستندة لحقائق واقعية- من الزهو بصفتها محطمة الغزو الأوروبي و كذلك بحضورها الوطني في خطابات و أعياد مصر الرسمية كذلك المشروع الوطني الناصري العروبي الذي حمل كثيراً من الذهنيات و المعنويات أكبر بمراحل من مضمون عملي بصور ساندت المنظومة الأخلاقية كثيراً و مثلت دعامة و علاج سريعين لأي مشكلات أخلاقية و إجتماعية فكانت بمثابة منظومة داعمة  في بورسعيد.

*في فترة ما بين حرب الأيام الستة و يوم كيبور لم تكن بورسعيد إلا مدينة أشباح مُهجرة إلى بلاد أخرى بشكل صنع البداية الحقيقية للإنهيار الاجتماعي الذي ضرب سكان المحافظة ، هؤلاء المُهجرين عانوا من شظف العيش و رداءة الحياة بعكس الدعاية الرسمية التي جعلت منهم ضيوف مرحب بهم ، كان هؤلاء السكان يعانون لأكثر من سبع سنوات من الفقر و الضيق و التهديد الدائم للحياة و إنعدام الاستقرار .. كانت البيئة التي عايشوها تختلف جذرياً عنهم فهي تعايشت حتى نهاية حرب السويس مع الحالة الوطنية ثم إنتقلت مصر بإستثناء مدن القناة و بالذات بورسعيد إلى مرحلة مشروع وطني و مشكلات إجتماعية عديدة و حين جاء المُهجرون الى المدن الداخلية حصدوا نتاج تلك السنوات و ما بين الحربين و إكتسبوا أنماط و أخلاقيات غير معتادة أو مألوفة بالاضافة للفقر الشديد المرتبط بهم فكانت الأرضية مُهيأة لما سيلي هذا.

*في فترة ما بين 1974 و نهاية الثمانينيات إنتقل المُهجرون لبورسعيد و معهم وافدون جُدد بطبائع و أفكار جديدة بعد تغييرات سبق الاشارة لها ، هنا بدأ الانفتاح الاقتصادي و نظام المدينة الحرة و فكرة السوق المفتوح لتنتقل البلاد و العباد كليةً من الفقر في أرض المهجر للغنى الكبير سهل التحقيق في المحافظة و من المبادئ الوطنية و فكرة الكفاح إلى مبادئ الثروة و المال الوفير المرتبط بجرائم التهريب و الغش بشكل أكسب المحافظة سمعة لم تكن خافية بل أُلصقت بهم -لأسس حقيقية- و باتت جزء من طابعهم الكامل المولد لتغيرات إجتماعية كُبرى لم تتوقف بل تزايدت و إشتدت و لم تتغير الحقائق على الارض بل كَبُرت بفعل منهج السادات المولد للتغيرات الكبرى الثروية بدلاً من الثورية فتولدت الأنماط التي نراها اليوم جزئياً و التي جنيناها لكن لم تكن فقط هذه الحالة الاجتماعية وليدة الإنتقال البيئي و الثروي الكبيرين بل تلتها مرحلة أشد خطورة.

*منذ نهاية الثمانينيات إلى اليوم تبدلت الأحوال فالمنطقة الحرة تلاشت و الفقر عاد و الافلاس ضرب المدينة و قد كنت شاهداً بنفسي على هذا في أكثر من مرة رأيت محال تجارية مغلقة لعدم قدرة أصحابها على دفع أجور العاملين و فاتورة الكهرباء -!- و بالعودة لحديث النائب الحالي البدري فرغلي عن المدينة -قبل الثورة- نجد أن المدينة تحولت لبلد بلطجة و دعارة حسب وصفه ، الإنهيار المالي الكبير للمدينة أسس لحالات البلطجة و القتل و الدعارة و جذور الانفتاح المرتبط باللاتخطيط و التفكك الاجتماعي و جذور أقدم تعود للتهجير كل هذا صنع ما رأيناه الأمس 2 فبراير 2012 .

..

لم تكن أحداث إستاد بورسعيد وليدة الأمس فالمجتمعات لا تتغير بالباراشوت بل بسلسلة طويلة من التراكمات الاقتصادية و السياسية التي تصنع تغيرات إجتماعية كبرى ، كانت أحداث 2 فبراير مأساة نراها ماثلة متحركة بعد أن راقبنا صنعها طوال عقود طويلة و الدولة صامتة ساكنة مستميتة في منهج لا ينظر للتغير الاجتماعي بالمرة..

بورسعيد جزء من مصر تأثر بها و أثر فيها..لا تنسوا هذا.