لا أحب الكتابة عادةً عن الأحداث الآنية الحاضرة دون دراستها جيداً حتى أتجنب منهج السبوبة الكتابية و النحتاية المهنية لكن هنا أجد نفسي في إستثناء صريح فالموضوع لا يتعلق بأحداث الأمس 1 فبراير 2012 في بورسعيد بين جمهور النادي المصري و الأهلي التي أودت بحياة عشرات الضحايا بل يتعلق بالمتغيرات التي أصابت مجتمعنا المصري بقسوة عبر أكثر من نصف قرن من حكم العسكر ، تغيرات سياسية و إقتصادية ضربت مجتمعنا المصري بقسوة و تبدت في مظاهر مؤلمة على مستوى القطر كله في مظهر العنف ضد المرأة و الأقباط المسيحيين و البهائيين و العلمانيين ، هذه التغيرات المتتالية لم تظهر مرة واحدة بل تراكمت عبر مرحلتين الأولى مرحلة ناصرية سحقت الوجود السياسي و التعدد الفكري وسط الناس و الحزبية المحركة المؤثرة و الثانية مرحلة ساداتية/مباركية ألغت الكثير من المبادئ القليلة المتبقية المرتبطة بالفكرة الوطنية المقاومة للإستعمار و الملتفة حول مشروع وطني لصالح مبادئ إستهلاكية ربحية تجارية عنيفة حلت محل منظومة الأخلاق المتآكلة عملياً و التي كانت تحاول الصمود بيد الفكرة الوطنية المقاومة للإستعمار و المواجهة للعدوان ثم المحاولة لصناعة سير جديد وطني يتشبث بتلابيب محاولات العهد الناصري اليائسة ، كل هذا لم يُحدث أثر حقيقي عملي على أرض الواقع و ظل يتصاعد في إطار سلبي فما رأيناه نتيجة و حاصل لشئ بدأ منذ عقود و ليس شئ هبط بالباراشوت علينا فجأة.
ماذا حدث في بورسعيد؟ .. ماذا حدث؟
بورسعيد نموذج بسيط لمجتمع مصري منكوب بحكم العسكر مثله مثل مجتمعات شرق أوسطية و أخرى لاتينية و ثالثة آسيوية حكمها العسكري فتعددت ظواهرها المؤلمة المخيفة و التي لم تنتهي أبداً..
*حين وقع إنقلاب 23 يوليو 1952 كانت المنظومة الاجتماعية في مصر متماسكة إلى حد واضح بفعل حالة الفقر العامة التي كانت تدفع العلاقات الاجتماعية للمزيد من الارتباط متأثرة بالفقر ثم حالة التعدد الثقافي المرتبط أولاً بالوجود الأجنبي ، كانت بورسعيد بالذات متشعبة في تلك الحالة فالفقر فيها حاضر بين الأهليين و التعدد الثقافي موجود بفعل قوات الاحتلال و الأجانب من يهود و أوروبيين و رأسمالية مرتبطة بقناة السويس بطابعها الأجنبي فكانت بور سعيد حالة نموذجية لمصر ، تصاعدت محاولات الضباط لإخراج إنجلترا من القناة و مدنها و معسكراتها بدعم أمريكي كبير يهدف لإخراج الملاك القدامى و الحلول محلهم بالشرق ، تفاعلت بورسعيد -كمصر كلها- مع المحاولات التي مرت بالمعاهدة عام 1954 ثم الجلاء 1956 في حالة وطنية ساعدت منظومة الأخلاق كثيراً بفعل الالتفاف حول المشروع الوطني.
*مع حرب السويس 1956 إنقلبت الأوضاع في مصر و بالذات في بورسعيد فإسرائيل سحبت الجيش الى سيناء ثم تقدمت إنجلترا و فرنسا للضفة الغربية فسحبت مصر قواتها من سيناء -التي إحتلتها إسرائيل- تماماً لتنقلها لمقدمة القاهرة حتى الاسكندرية تخوفاً من غزو جديد على لجانب الغربي و تركت عملياً عبء المقاومة على ألوية مشاة محدودة في بورسعيد مع المقاومة الشعبية التي نظمها عملياً جنود الجيش الذين أصلاً من بورسعيد ، إرتفعت الحالة الوطنية و التلاحم و منظومة الأخلاق إلى السماء بفعل المقاومة و تداعيات دخول الدبابات الأنجلو-فرنسية لبورسعيد بشكل طبيعي و سلسل فكانت الحالة العقلية و الاخلاقية متميزة بالبارود الأوروبي و إستمرت الحالة إلى ما بعد الانسحاب الاسرائيلي من سيناء 1957.
*في فترة ما بين الحربين السويس و الأيام الستة إرتبطت بورسعيد بحالة -غير مستندة لحقائق واقعية- من الزهو بصفتها محطمة الغزو الأوروبي و كذلك بحضورها الوطني في خطابات و أعياد مصر الرسمية كذلك المشروع الوطني الناصري العروبي الذي حمل كثيراً من الذهنيات و المعنويات أكبر بمراحل من مضمون عملي بصور ساندت المنظومة الأخلاقية كثيراً و مثلت دعامة و علاج سريعين لأي مشكلات أخلاقية و إجتماعية فكانت بمثابة منظومة داعمة في بورسعيد.
*في فترة ما بين حرب الأيام الستة و يوم كيبور لم تكن بورسعيد إلا مدينة أشباح مُهجرة إلى بلاد أخرى بشكل صنع البداية الحقيقية للإنهيار الاجتماعي الذي ضرب سكان المحافظة ، هؤلاء المُهجرين عانوا من شظف العيش و رداءة الحياة بعكس الدعاية الرسمية التي جعلت منهم ضيوف مرحب بهم ، كان هؤلاء السكان يعانون لأكثر من سبع سنوات من الفقر و الضيق و التهديد الدائم للحياة و إنعدام الاستقرار .. كانت البيئة التي عايشوها تختلف جذرياً عنهم فهي تعايشت حتى نهاية حرب السويس مع الحالة الوطنية ثم إنتقلت مصر بإستثناء مدن القناة و بالذات بورسعيد إلى مرحلة مشروع وطني و مشكلات إجتماعية عديدة و حين جاء المُهجرون الى المدن الداخلية حصدوا نتاج تلك السنوات و ما بين الحربين و إكتسبوا أنماط و أخلاقيات غير معتادة أو مألوفة بالاضافة للفقر الشديد المرتبط بهم فكانت الأرضية مُهيأة لما سيلي هذا.
*في فترة ما بين 1974 و نهاية الثمانينيات إنتقل المُهجرون لبورسعيد و معهم وافدون جُدد بطبائع و أفكار جديدة بعد تغييرات سبق الاشارة لها ، هنا بدأ الانفتاح الاقتصادي و نظام المدينة الحرة و فكرة السوق المفتوح لتنتقل البلاد و العباد كليةً من الفقر في أرض المهجر للغنى الكبير سهل التحقيق في المحافظة و من المبادئ الوطنية و فكرة الكفاح إلى مبادئ الثروة و المال الوفير المرتبط بجرائم التهريب و الغش بشكل أكسب المحافظة سمعة لم تكن خافية بل أُلصقت بهم -لأسس حقيقية- و باتت جزء من طابعهم الكامل المولد لتغيرات إجتماعية كُبرى لم تتوقف بل تزايدت و إشتدت و لم تتغير الحقائق على الارض بل كَبُرت بفعل منهج السادات المولد للتغيرات الكبرى الثروية بدلاً من الثورية فتولدت الأنماط التي نراها اليوم جزئياً و التي جنيناها لكن لم تكن فقط هذه الحالة الاجتماعية وليدة الإنتقال البيئي و الثروي الكبيرين بل تلتها مرحلة أشد خطورة.
*منذ نهاية الثمانينيات إلى اليوم تبدلت الأحوال فالمنطقة الحرة تلاشت و الفقر عاد و الافلاس ضرب المدينة و قد كنت شاهداً بنفسي على هذا في أكثر من مرة رأيت محال تجارية مغلقة لعدم قدرة أصحابها على دفع أجور العاملين و فاتورة الكهرباء -!- و بالعودة لحديث النائب الحالي البدري فرغلي عن المدينة -قبل الثورة- نجد أن المدينة تحولت لبلد بلطجة و دعارة حسب وصفه ، الإنهيار المالي الكبير للمدينة أسس لحالات البلطجة و القتل و الدعارة و جذور الانفتاح المرتبط باللاتخطيط و التفكك الاجتماعي و جذور أقدم تعود للتهجير كل هذا صنع ما رأيناه الأمس 2 فبراير 2012 .
..
لم تكن أحداث إستاد بورسعيد وليدة الأمس فالمجتمعات لا تتغير بالباراشوت بل بسلسلة طويلة من التراكمات الاقتصادية و السياسية التي تصنع تغيرات إجتماعية كبرى ، كانت أحداث 2 فبراير مأساة نراها ماثلة متحركة بعد أن راقبنا صنعها طوال عقود طويلة و الدولة صامتة ساكنة مستميتة في منهج لا ينظر للتغير الاجتماعي بالمرة..
بورسعيد جزء من مصر تأثر بها و أثر فيها..لا تنسوا هذا.
7 تعليقات على بورسعيد .. مثال مجتمعنا وما حدث له
شيء مؤلم يا محمود، ومؤسف… بل مُفجع. ولكن يبدو أن العملية برمّتها مدبّرة. لم أعتقد في المؤامرة يومًا، ولكن المتآمر البارحة كان “متآمر واهبل” على رأي المقولة الشهيرة.
مقال جميل محمود ..من ملاحظتي لما مربه بلدي العراق ..ان ماحدث امس ستكرر ..الطبقه التي وصفت انهيارها وتغيرها توجد مايماثلها لدينا ..الفلاح المهجر لبغداد في عصر الدوله الاشتراكيه ومن ولد في بيوت الصفيح ..هو اليوم جد جيل جيش المهدي ومليشيات عصائب اهل الحق ..والاجيال التي نقلت من مناطق الزراعه الفقيره لتغير ديمغرافيه المدن الكبرى بغداد وكركوك وديالى هم من صاروا كتائب مسلحه وشكلوا نواة فرق محمد والدوله الاسلاميه ..وجميعهم في الاصل كانو طبقات بسيطه مهمشه ويعيشون بمبداء رزق يوم بيوم ..الغياب الامني ..الانفلات ..غياب الرادع الاخلاقي ..تغيب مبادء الوطنيه لحساب الولاء للدين ومايليه من ولاء لممثليه ..ومنح القوة للطبقه الغارقه بالفقر والجريمه والحقد على الاخرين ممن يتصورون انهم يعيشون افضل منهم (تعليما او عمل وظيفي ) يولد لديهم القدره ع التدخل وفرض قانونهم ..هناك حكايه عن مراهق فقير عرف بكونه مشاغب ويقترف جرائم تحول في 2006 الى امير ويحمل ام 16 ويقود فريق من المراهقين وقاد حرب شعواء على اخيه الذي انشق عنه بفريق اخر وصلت لحد استخدام الصواريخ وسببت تفريغ منطقه سكنيه كامله من سكانها من اهل الطبقه المتعلمه وهجرتهم للسويد حتى ان مجرد ذكر عنونهم في بغداد لدى دائره الهجره السويديه في 2006 سبب كافي لمنح اللجوء لان السويدين اسموها منطقه الامير من كثر ماسمعوا نفس القصه تتكرر على السن اللاجئين
فلنأخذ الأمر من زاوية التحليل الاجتماعي لظاهرة ملفتة قد يستغلها أحد لإحداث آثار معينة .
رصد جميل للتغيرات التى حدثت للبورسعيديه يسلط الضوء على جانب آخر من الأحداث و هو أنه لا يمكن للمجلس العسكرى أو أى أجهزه متعاونه معه خلق الكارثه من العدم , دائماً يلجأون لمسرح محتقن و مستعد للإنفجار و هذا للأسف يتجاهله الكثيرون
بالنظر للمستقبل , أعتقد أن الحادث لن يمر مرور الكرام و أهالى هؤلاء الشهداء يدركون شيئاً عن القاتل حتى لو استخدمه العسكر كأداه لكنهم فى النهايه يدركون أن من قتل أبنائهم هم شعب بورسعيد
العزيز محمد, تحية تقدير ارسلها لجهدك الرائع رغم قصر الزمن وبين التدوين فقد سلطت الضوء على احد اسباب ما سميته احداث واود هنا ان اشير الى راي او اراء لي بهذا الخصوص, ولكن قبل ذلك احب ان اؤكد انها مجرد اراء,لا تزال, الى انني مقتنع انها ليست احداث بل _ ازمه _ بنيويه في مجتمعاتنا , الا ان مقالتك تصلح لان تكون نواة تناول لتك المواضيع التي ساحاول ان ادونها ادناه كاراء
1- هل ان جوهر الازمه_ كما احب ان اسميها_ هو في البنية الاجتماعيه لمجتمعاتنا فقط ام ان هناك ابعاد ثقافيه ونفسيه واقتصاديه ايضا.
2- فشلت الدوله الاسلاميه, ان صح التعبير, منذ النبي محمد والى العباسيين ومن ثم العثمانيه وحتى في الدوله الوطنيه الاولى عندنا من عند الناصر والاسد والبعث والسعود وغيرهم في القضاء على الاشكال الاجتماعية القديمه لابل اضطرت للاستناد عليها. واقصد هنا العشيره. لا بل انها في الدولة القوميه مثل ناصر والبعث اضطرت للا ستناد على العشيره والدين لاستمرار حكمها رغم تناقض ذلك مع فكرها . فعبد الناصر مثلا لم يفصل السياسه عن الدين بل استمر التعليم بجوهر الدين وكذلك فعل البعث عندنا . هم اضطهدوا من اراد مشاركتهم السلطه فقط من الاسلاميين . اي بمعنى اخر او تركيز اكبر انهم كانوا يقودون الصراع ضمن منظومة الفكر الاسلامي وليس من خارجه . واقصد هنا بالفكر الاسلامي كما وضحه نصر حامد ابو زيد _بفهم الانسان للدين_, وليس الدين نفسه.هم لم يقوموا ببناء منظومه علمانيه متكامله اطلاقا فبقي الازهر يحتفظ بمكانته في شؤون الحياة ان لم يهدد سلطتهم.
3- الموقف من العمل. واقصد هنا الموقف النفسي والثقافي من العمل. حيث اننا نمجد التجاره ونحتقر العمل او نضع العمل الاخر للانسان بمرتبه متدنيه منه . ولهذا نجد ان رؤوس الامول في الصناعه عندنا لا تتطور ولا يحث فيها التراكمات الراسماليه الضرورية للتطور .ونجد ان اعمال الكمشن والاستيراد والتصدير وموظفو الدولة الريعيه عندنا هي الابرز لتكون طبقه طفيليه لاتمت للتطور الاقتصادي الداخلي بصلات وثيقه بل بالسوق العالميه . ولهذا لانجد ان هذه الطبقه تدافع عن تطور اقتصادي-اجتماعي ولا تقوده كما حدث في اوربا. اما الطبقة الوسطى فهي هشة التكوين الاجتماعي ومتارجحه وجاهلة بمصالحها لان اجزاء منها _موظفي الدوله مثلا_ ترتبط مصالحهم ليس بالوضع الاجتماعي الداخلي فقط بل بدرجة اقوى بالسوق العالميه مثل العراق لان دخلهم يتحقق عبر تصدير النفط . اما الكسبه وغيرهم ونتيجه لعدم تطور الصناعات الوطنيه فنجدهم -مستبدلي- قطع وليس صانعيها
4- ازمة بورسعيد طرحت على طاولتنا جميعا وعلى طاولتكم انتم الشباب لان الغد لكم طرحت وبصرخه مدويه مشكلة بنويه في الدوله او الوطن او المواطنه : هل اننا نمر بمرحلة تاكل بنيان دولة الامه ؟ هل البديل هو دولة المواطنه كما حدث في الغرب؟
5- اعتقد اننا بحاجه ماسه الى نشر ثقافه التسامح ثقافة الحوار ثقافه ابراز دور العقل لحل المشاكل.
ان ما قدمته من اراء جاء نتيجة لمقالتك التي استفزتني وهو من ابرز ايجابيات اية مقاله انها تستفز العقل ان يبحث.تحياتي.
3-
الى السيد اثير حداد : انا اوافق على رايك تماما
كل تجارب الدولة الحديثة حاولت جاهدة التغيير لكن كان تغييراً قاصراً على مجتمعات المدن و في تجارب أخرى تغيير شكلي فقط..
التجربة التركية الحديثة و هي مجال إهتمامي لم تنجح إلا في المدن فقط..التغيير الاجتماعي الكامل يحتاج:
1- حكومة مركزية قوية مسيطرة.
2- شرعية قوية تجب الاتباع و تمنع أي رأي رجعي و لو استندت الرجعية لخيار ديمقراطي.
3- إستعداد شعبي (و هذا ما ناقشته في المقال).
لذا فمقالي مرتبط بمناقشة النقطة 3 فقط.