تباغتنا النسويات من آن لآخر بطرق قضية الاستغلال الجنسي للمرأة في مناطق النزاعات، وعندما نحاول فصل الخلط بين حالات الاغتصاب، التحرّش، الرقّ الجنسي (Sex Slavery)، أو الإتجار بالبشر (Human Trafficking) من ناحية، وبين امتهان النساء للجنس (Sex Workers) بإرادتهن الحرة دون تعسّف أو قسر من ناحية أخرى، تنتفض النسويات غاضبات في لبس واضح للأمور، ولكن يبدو أننا ننطلق من مفهوم قيمي مختلف على أيّ حال. المشكلة الحقيقية هي أن بعض النسويات نصّبن أنفسهن أمهات لكل النساء والفتيات في العالم، وبناءً على ذلك التنصيب، فهُنّ يُدركن ما لا تدركنه غيرهن من الإناث، وهو افتراض لا يختلف البتّة في هذه النقطة، مثله في نقاط عديدة، عن الأبوية (Patriarchalism)، أو حتى الفاشية أو الفاشية الجديدة (Neo-fascism)، وهي المفاهيم التي تعاديها النسويات بضراوة.

لم تُثقل نادين لبكي كواهلنا ولم تشوش حواسنا بالجدال الكلاسيكي العقيم هذا، بل استلّتنا برقّتها المعهودة لحالة فريدة أينما تلعب المرأة دورًا مساويًا، بل في بعض الأحيان أعلى كعبًا وأثقب نظرًا، للرجل في المجتمع – والمساواة بين الجنسين هو كنه النِسوية الأسمى ومفهومها البسيط الذي ابتعدت عنه النسويات أكثر مما عالجنه – عبر فيلمها الجديد (وهلّأ لوين؟ – ?Et maintenant, on va où) في إنتاج فرنسي–لبناني–مصري–إيطالي مشترك. الفيلم الذي عُرِض تجاريًا في أواخر 2011، مازجة في معالجتها المتميزة دور المرأة المنشود بثيمات الطائفية، الحرب الأهلية، الموت، الدين، الحب والغيرة، بعمق وخفّة متوازيين بين تلال “ضَيعة” لبنانية نائية حزّمتها الألغام وقطّعت أوصالها رحى النزاعات الطائفية المُسلّحة في مطلع الألفية الحادية والعشرين.

تنطلق رحلة “وهلّأ لوين؟” برقصة استعراضية لنسوة مُتّشحات بالسواد في مقابر مشتركة مسيحية–مسلمة، مما يخفف من تراچيديّة الموقف، وينذر ببدء “حالة” درامية كوميدية موسيقيّة تدعوك لقضاء وقت سوف تنتابك فيه متتاليات مشاعر غائرة الأثر، وكأنها تنتشلك من الزمكان وتضعك بين الأبطال شاخص النظر إليهم في تأمل، رغم سرعة إيقاع الفيلم الذي لن يتركك فيه الأدرينالين وحيدًا.

تسعى النسوة لتجنيب الضيعة نشوب نزاع طائفي مسلّح سوف يروح فيه عشرات الضحايا الذين لن يخلّفوا ورائهم سوى ذكرى وصورة، فيسلكن في ذلك شتّى الطرق ويقرعن أبوابًا عدّة في محاولات متكررة لبلوغ هدفهن؛ بدايةً بقطع إرسال المذياع والقمر الاصطناعي لإغراق الضيعة أكثر وأكثر في عزلتها، مرورًا بحرق نُسخ الجرائد اليومية، في حالة فريدة من الرقابة على المطبوعات بالحرق (Biblioclasm)، للحيلولة دون تسريب أخبار الحرب المشتعلة خارج حدود الضيعة، وليس نهايةً بالحيل الدينية مثل؛ تجنيد قسّ وشيخ الضيعة لمساعدتهن على تحقيق مأربهن، خدعة مناجاة السيدة العذراء التي تذرف دمًا جراء ما وصلت إليه الضيعة من أحوال، إلى أن يغيّرن ديانتهن في نهاية الفيلم. بل وبلغ الأمر الاستعانة بنساء “المعسكر الشرقي”، عبر استئجار أوكرانيات لمدة أسبوع لغرضين مزدوجين؛ الأول هو التنصّت الاستخباري على مسلمي القرية للتعرّف على مخبأ الأسلحة، والثاني، لزوم “فرفشة” رجال الضيعة جميعًا عبر إقامة ليلة ماجنة بصحبة معجّنات مخلوطة بالحشيش ومشروبات ممزوجة بالمنومات لاستغفال الرجال، بينما تستخرجن هن الأسلحة للتخلّص “الآمن” منها. ولمّا أمسى المعسكر المسلم منطقة منزوعة السلاح بفعل “اتحاد الضيعة النسائي”، لم يُغفلن المعسكر المسيحي كذلك، حيث قامت تكلا (كلود باز مصوبع)، التي قدّمت أداءً مبهرًا وأظهرت قدرات تمثيلية مدهشة، بتصويب البندقية على الساق اليسرى لابنها الأكبر، وهو قيادي في المعسكر المسيحي، خشية فقدانه هو الآخر، أو تسرّب أمر مقتل ابنها الأصغر مما سوف يؤدي حتمًا لاشتعال فتيل فتنة لن تخمد بعد ذاك، حيث تحمّلت في سبيل ذلك ألمًا مضاعفًا أبرزته كلود بتعبيرات مؤلمة خلبت أبصارنا، مثلما عقولنا.

لعبت المرأة الدور المحوري على مدار “وهلّأ لوين؟”، ناهيك عن الدور المضاعف إبان ذروة الفيلم، بعد استئجار الأوكرانيات اللائي يعملن كعارضات بملهى ليلي في مركز حضري قريب، لإثبات وجهة نظر “لبكية” مفادها أن النساء هن الطريق والمُنتهى، الوسيلة والهدف. وبينما كانت تحوّل لبكي، برشاقة فائقة، دفّة دور الدين ورجاله من سلبي إلى وسيط هام في حل النزاع، لم يفتها نثر بعض الإسقاطات التي لا يمكن إغفالها مثل؛ “طلب النور من العذراء، فانقطاع التيار الكهربي”، “لوم تكلا للعذراء مستدعية معضلة الشر أو المفارقة الإپيقورية (Riddle of Epicurus)”، “خرافات القسّ إثر انكسار الصليب”، “الدور التحريضي الذي تلهبه الخُطب المتشددة وتزكّيه”، وأخيرًا وليس آخرًا، “تعامي المتدينين عن حقوق الجيرة والمودة والعِشرة حالما يتعلق الأمر بممارسات تقليدية متوارثة، حتى لو كان التعامي سيطول الحبيب نفسه في حالة الهستيريا الجماعية (Mass Hysteria) الطائفية تلك”.

سلّطت لبكي الضوء على ضرورية البحث عن حلول “علمانية” لمشاكلنا الأرضية، وليس تسويف المشاكل برمّتها والتعويل على مدّ سماوي ضبابي. وبالفعل، وجدت نادين الحل الأرضي في نهاية الفيلم عبر خداع المستقبِلات الظاهرية (Illusion) لدى العقليات الدوجمائية، فتحجبّت كل سيدة مسيحية وأعلنت إسلامها، والعكس، سفرت كل مسلمة عن شعرها وأعلنت انضمامها لمعسكر “الآخر” الذي نحمّله كل الاتهامات طوال الوقت حتى مع انعدام وجود أدلة على تورّطه، لتبدو فاطمة (أنچو ريحان) في أبهى صورها على مدار الفيلم بشعرها المجعّد أعلى سطوح بناية، مطالبةً زوجها، الواقف أرضًا، في إشارة إلى الوضع المتدنّي لعقلية رجال الضيعة على ما يبدو، أن يقتلها إذا كان يرغب في قتل المسيحيات، فهي قد أصبحت “منهن” على حد وصفها. أمّا سفور السيدة الخمسينية البدينة “سيدة” (أنطوانيت النوفلي)، والتركيز علي قسمات وجهها وملامح جنتيها وشعرها القصير بلقطة قريبة (Close-up) لبضع ثوانٍ، بينما هي مرتادة دراجة بخارية ثلاثية العجلات وسط الألغام، يرمز ضمنيًا إلى تحررها من قيد أبدي وجب معه تنفّس الصُعداء.

بالرغم من سطحية أداء الفتيات الأوكرانيات في الفيلم، حيث لم يظهرن إلا مخمورات أو تحت تأثير المخدرات، فهن قد أسدين خدمتين جليلتين لإنقاذ الضيعة من رحى الحرب الأهلية المزمعة، بالإضافة لتفوّه إحداهن بجملة ذات مغزى قُرب نهاية الفيلم أثناء زيارتهن للمقابر، مفادها “أن موتى هذه الضيعة من الرجال أكثر عددًا من الأحياء”.

صنعت لبكي “وهلّأ لوين؟” بحرفية ومهارة بالغتين، وتدرّجت بتسلسل ناعم من درجة ردّ الفعل السلبي للمرأة، عبر مجرد التشويش على إرسال القمر الاصطناعي في ليلة رأس الألفية الجديدة بالصراخ وافتعال العراك أو حتى قطع الإرسال برمّته، إلى ردّ فعل إيجابي وحاسم بلغ ذروته بتحقيق رغبتهن في تجنيب الضيعة مزيدًا من الأشلاء والدماء – بل والأهم من ذلك تجنيب أنفسهن مزيدًا من النحيب والعويل.

فيلم “وهلّأ لوين؟” برؤية نادين لبكي، وألوان تلال لبنان الزاهية، وألحان خالد منذر الشجيّة، وصوت رشا رزق النوسطالچي، وإنتاج “آن دومينيك توسا“، وتوزيع ” لا فيلم دو تورني“، وتأليف نادين لبكي، رودني الحداد وجهاد حجيلي. اشترك كذلك الممثل عادل كرم بدور صغير. وهو نفس الطاقم تقريبًا الذي شاركها فيلمها الأول المتميّز (سكر بنات – Caramel) إنتاج عام 2007. على جانب آخر، جاءت المشاهد الموسيقية في الفيلم متوائمة في أغلبها والتصاعد الدرامي (Crescendo).

حاز الفيلم على جائزة الجمهور في مهرجان تورونتو 2011، كما عُرض في كان 2011 ضمن مسابقة “نظرة ما” (Un Certain Regard)، ومثّل الفيلم لبنان للتنافس على “جائزة أوسكار 2012 لأفضل فيلم أجنبي” في الدور التمهيدي، ضمن جوائز وترشيحات أخرى كثيرة.

نسجت لبكي، بحِنكة، ثوبًا “مثاليًا” للمرأة في مناطق النزاعات وما بعد النزاعات (Post-conflict zones)، عبر استخدام خيوط متشابكة. وأبدعت منظورًا واعٍيًا لدور المرأة كما يجب أن يكون، وليس كما هو عليه، دون الحاجة لخوض ثرثرة تلقينية مملة، في طرح متميّز في مُجمله ورائع في تفاصيله، والذي أعزوه طرحًا يؤطر لمرحلة ما-بعد-نسوية (Post-feminism) خاصة جدًا بهذه المنطقة حيال هذا المنعطف التاريخي الذي نشهده – طرح شرق أوسطي بامتياز يتلافى أخطاء الماضي ويصبو لفاعلية ميدانية حقيقية للمرأة، وليست شكلية. نستطيع أن نجزم بأن “وهلّأ لوين؟” هو فيلم مضاد للدوجما (Anti-dogmatic) في كل أشكالها؛ الدوجما الدينية، السياسية، الأبوية، والذكورية. وقد جاء اختيار لبكي لاسمها في الفيلم، “آمال”، مؤيدًا لهذه النظرة وواعيًا لها، فهو يعرّي “آمالها” في لبنان خال من الطائفية ومشرق بمساهمات جادة للمرأة تعوّضها عن قرون من القهر والتمييز، لا يمكن إنكارها على أيّ حال. عرّضت لبكي بطلاتها لكل أشكال الضغط العصبي والنفسي، بدايةً من نار طائفية غشيمة لا تميّز ولا تزر، وليس نهايةً بفقدان الآباء والأزواج والأبناء بالقتل أو الأسر، مُبرزة اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD) على الشاشة بشكل مدهش – الإضطرابات التي حوّلتها بطلات الفيلم لمواطن قوة انطلقن منها، ولم يبكين على صخرتها.

حمل المشهد الأخير للفيلم تساؤلًا وإجابةً، ربط دربًا واتجاهًا، وخلط واقعًا وخيالًا، ونقل التساؤل الأخير المشاهدين من مرحلة إلى مرحلة داعيهم لاعتباره ليس بدايةً أو نهايةً، إنما لحظة تجلِّ على الطريق، مؤدية لاستنتاج حقيقة باترة لا تقبل الشك. وإذ اتخذ مشهد النهاية نفس مكان المشهد الافتتاحي، المقابر، فإن وضع نساء الضيعة، والحالة هذه، قد تبدّل كليًا، ولاسيّما معتقداتهن “ظاهريًا”، حيث نجحن أخيرًا في تجنيب الضيعة الدمار عبر استفزاز عقول الرجال للنهوض من سباتها الأعمى والعميق. يترجّل جمع من رجال مسلمين ومسيحيين حاملين نعشًا يحوي بداخله جثمان ابن تكلا الأصغر، بينما لا يبرز على هيكله الخارجي أيّ شعارات طائفية ظاهرة، يحوّطهم نساء القرية متلفّحات بالسواد. أينما بلغ الجمع منتصف الممر الفاصل بين مقابر المسيحيين يسارًا والمسلمين يمينًا، استداروا جميعًا لا إراديًا في حيرةٍ من أمرهم، وكأنهم منوّمين مغناطيسيًا، مُسائلين النساء، اللائي بلغن مرحلة كليّة-القدرة من التحكم في مجريات الأمور، “وهلّأ لوين؟”