رسم للمجتمع الطبقي في أوروبا قبل الثورات. العمال و الفلاحين  لهم أثقل  الأعمال و هم أكبر المنتجين في البلد و الأكثر فقراً و الأقل حقوقاً, و الطبقات الأقرب للحاكم الدكتاتور هي الأكثر ترفاً و ثراءً و صاحبة أكثر الامتيازات.

منذ صغري ورغم قلة معرفتي آنذاك بتعقيدات الحياة, الا أنني أدركت أن ثمة جداراً سميكاً جداً يفصل بين كثير من الأغنياء و بقية الناس. كأطفال لم يكن عندنا مانع من أن نلعب مع أي طفل آخر و لم نكن نرى و لا نهتم لهكذا أمور, لكن عند الكبار كان ذلك الجدار الفاصل واضحاً جداً.

عندما كبرت و تعرفت على بعض من يدور في فلك تلك الطبقة الثرية (من ليس بالضرورة بنفس مستوى الثراء لكن مستوى عالي نسبياً و له نفس الاهتمامات و التصرفات) , وجدت بينهم بعض من أستطيع أن أتحدث معه عن بعض الأمور في الحياة كأصدقاء. لكن ما كان يضايقني في اوقات كثيرة هو أنه كان كلما يجتمع عدة أشخاص من ذلك النوع في نفس الغرفة, يُبدي كل واحد منهم سطحية سخيفة, الكل يستميت لأن يُسلط كل الانتباه و الأنظار على نفسه, كلٌ يرفع صوته قدر الامكان, كلامه و نظراته و ضحكاته كلها متصنعة, لا يوجد أي عمق حقيقي لكلامهم و لا حتى نكتهم السخيفة اللتي يتصنعون قهاهاتهم عليها مضحكة فعلاً.

هل تعرفون ما أعني؟ هل صادفتكم و هل رأيتم أشياء مشابهة؟

و لكن ما أثار انتباهي, هو كيف أنهم يعيشون في فقاعة وردية معزولة تماماً عن بقية العالم. ليس فيها الا أشباههم, لا يكادون يختلطون الا بأناس أغنياء مثلهم و بنفس الرفاهية, كل اهتماماتهم سطحية و شخصية بحتة, آخر الأغاني و الحفلات و التسلية أو أمور شخصية بحتة جداً, لا يوجد أدنى اهتمام بالعالم من حولهم,تقريباً لا متابعة للأخبار, لا قضايا فلسطين و لا الفقر و لا حقوق الانسان و لا حرية التعبير و لا حقوق المرأة و لا أي شيء من هذا القبيل يثير أي اهتمام و لا يستحق و لا مرة واحدة اي نقاش أو تعليق أو نشاط, لا يتكلمون بهكذا أمور مطلقاً و ياويلك ان حاولت فتح هكذا مواضيع خاصةً عندما يجتمعون معاً و يبدأون مسابقة لفت كل الانتباه و الأنظار لأنفسهم و تبدأ سطحيتهم بالتفاقم!

عندما بدأت الثورات و المظاهرات, فهمت أن كثيرين منهم قد ينظرون لهذا الحراك بازدراء أو تحفظ قلق مخلوط بالمعاداة بأحسن الأحوال. وربما سببٌ من الأسباب أن كثيرين منهم يدرك, و لو باطنياً, أن كثيراً من مظاهر حياتهم الرغيدة أو حياة محيطهم من المعارف مصدرها أصلاً نظام اقتصادي و اجتماعي فاسد و احتكاري, أثراهم على حساب حقوق المواطن العادي المهدورة. و أن مكانهم القوي في المجتمع بسبب الفرق الشاسع يبن مستوى ثرائهم و فقر بقية الناس بالمقارنة,أيضاً معرض للخطر عند احتمال تغيرات جذرية.

كان أمراً قاسياً و صعباً أن أعرف أن أصدقاءً أمضيت معهم أوقاتاً كثيرة نستمع لبعضنا البعض و نتحدث عن حياتنا لهم موقف سلبي لثورة شعب ينهض أخيراً بكل شجاعة رافضاً أن يصمت على المذابح هذه المرة.

حاولت تجنب الحديث معهم عن الثورات. لكن عندما تهز ثورات تاريخية العالم بأكمله, يكون من الصعب تجنب الحديث عنها.

علقت صديقتي بشكل عابر على ثورة مصر.ثورة أعتبرها من أعظم و أجمل ثورات التاريخ.و أعتقد أنه قد كان لها دوراً كبيراً بالنسبة للحراك الشعبي في سوريا.

لكنني خائفة على الثورة المصرية, اسقاط مبارك, رأس النظام لا يكفي, هذه فترة مفصلية و من بالغ الأهمية المتابعة بثبات و عزم لا يقلان عن أيام ما قبل تنحي مبارك, اما أن يتغير النظام و يكون هناك تحول ديمقراطي حقيقي و الا هناك خطر من انقضاض أعداء الثورة و الديمقراطية و تأسيسهم لنظام دكتاتوري جديد قد يكون أكثر قسوة بعدما رأى سقوط مبارك. من الواضح أن النظام العسكري الحاكم الآن دكتاتوري, من  ينادي بحقوقه بالحرية و بدولة مدنية يُعذب و يُقتل و حتى النساء يتم الاعتداء الاجرامي البغيض عليهن و هيئات المجتمع المدني يتم أيضاُ اغلاقها و التضييق عليها  و ..و..

قلت لها باقتضاب أنني آمل أن يُكمل الشعب المصري الطريق كي لا تقع مصر في ظلمات الدكتاتورية من جديد.

تجيبني فتقول لي ما يؤكد حصر انخلاطها بالطبقة المترفة و من يدور في فلكها, و يؤكد أنهم يعيشون في فقاعة وردية خاصة بهم فقط. تقول أن لا, غير صحيح, أصلاً الأحوال الاقتصادية تحسنت في السنوات الأخيرة بظل حكم مبارك, و أنهم قد بالغوا كثيراً بحراكهم. و تضيف أن صديقتها ميمي, و هي تاجرة ألماس, خسرت كثيراً و تضررت تجارتها بسبب ما حصل.

ماذا أقول؟

لا أعتقد أن ميمي و أصدقائها يرون و لا يريدون رؤية الفقر المدقع اللذي يلتهم مصر بظل فساد حكم مبارك و عائلته, اللذين شعروا انه مهما فعلوا فان الشعب جثة ميتة لن تضايقهم و لو بأنين.

لا أعتقد أن ميمي و أصدقائها رأوا الأحياء الشعبية مثلاً و سكانها على أساس أنهم أناس يستحقون أفضل مما هم عليهم, أن لهم حقوق منهوبة و مهملة. لا أعتقد أن ميمي و أصدقائها سمعوا أو رأوا عن مصريين طيبين يستحقون الحياة بكرامة, يضطرون للسكن في المقابر و مزاحمة الأموات!

هذه أشياء لن تراها ميمي و أصدقائها في المقاهي و الأحياء التجارية و الراقية اللتي يرتادونها. و لو رأوا مظاهر الفقر لما اكترثوا أو فكروا بالحقوق المهدورة و التعاطف مع المظلوم و هذا النوع من “وجع الرأس“

لا أعتقد أن ميمي و أصدقائها فكروا و لا اهتموا أن هناك من وصل لمرحلة أن تساوى الموت و الحياة لديه, و قرر الموت في سبيل أمل أن يُساهم ذلك بتغيير مصر كي يكون مستقبل أولاده و اخوته و مواطنين آخرين افضل من الحياة اللتي عاشها و أن يكون أمامهم مستقبل و أفق على الأقل, و ترك وراءه عائلات ما زالت تبكيه..بينما هم يحزنون على خسائر في حركة تجارة المجواهرت!

ليس مفاجئاً اذاً , أن أصدقاء ميمي من داخل الفقاعة الوردية تلك, لم يروا, و لم يرغبوا أن يروا, الا اضرار أعمال أمثال ميمي التجارية في زمن تكتب فيها بلادنا تاريخها من جديد بكل شجاعة و تضحية تعجز الكلمات عن وصفها؟

في زمن يعرض البعض حياته و حياة عائلته لأخطار جسيمة, فقط كي يخفف من نفس هذا الظلم و القتل بحق عائلة بريئة أخرى؟

هو زمن الثورات و الفرق الشاسع بين الطبقات و التناقض , و هم كما قال أحد معارفي, زمن نرى فيه فئات من نوع ملكة فرنسا ماري انطوانيت معزولة في فقاعتها الوردية عن الواقع, كعندما قالت للشعب الجائع اللذي أشتاق للخبز :”فليأكلوا الجاتوه اذن!”

 

مواطنة عربية