فالقراءة ليست هواية نمارسها؛ فهي شيء أساسي في حياتنا وجزءً منا وذواتنا؛ فأول ما نزل جبريل عليه السلام على سيدنا محمد – صلوات الله عليه وسلم – في غار حراء ناداه، قائلا: اقرأ وكررها ثلاثا، ثم قال له جبريل: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)“. وذكر السرحاني في كتابة (القراءة منهج حياة) أن الآيات الخمسة تتحدث عن القراءة، ومع أن العلم غاية القراءة، إلا أن الله عزَّ وجل لم يبدأ القرآن بكلمة تعلم ولكن حددها بكلمة اقرأ،ولها ضابطان الأول: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)؛ والضابط الآخر: هو ألا تخرجك القراءة ولا العلم عن تواضعك، فلا تتكبر بالعلم الذي علمت بل تذكَّر على الدوام أن الله عز وجل هو الذي منّ علمك به “اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) هو الذي عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)”.
والمهم أن يكون فعل القراءة في المفيد والنافع، لا التافه الذي لا فود منه، والذي أصبح شاعاً في أيامنا كثير، وخاصة مع انتشار وسائل الاتصال والتقنية التكنولوجية الحديثة كالانترنت. لذا علينا أن نجعل من القراءة بحثاً محموماً، يؤكد ماهية صاحبها وهويته، وان تكون الرغبة الملحة دافعة لمزيد من الإطلاع على التجارب الإنسانية، وكتاباتهم وما وصلوا إليه في حقول العلم والمعرفة؛ والذي يتطلب منا الإطلاع على ممارسات الآخرين ومغامراتهم وفضاءات معرفية غير فضاءاتنا، لنتعرف آمالهم وطموحهم، تأسيسا للراحة الإنسانية، والقلق النفسي، والاضطراب العقلي من الحياة وقضاياها و بناء معرفة المستقبل،كيف تكون وما حالها؟. أراضونا عنها، أهي أحسن من سابقاتها، أم أنها لا تختلف كثيرا عنها. فيدفع بنا أن لا نقف على حد الإطلاع بل الغوص في أعماق النص واسباره لنحقق الغاية والقصد، ولنصيب المعنى المعلن بيانه والمخفي بين ثناياه وسطوره، كل ذلك سعياً إلى معرفة الهوية الشخصية والقومية.
فأنت لا يمكنك أن تعرف الذات من دون معرفة الآخر، وهذا لا يتأتى إلا بفعل القراءة الأولى المتعمق في بحث محموم عن الهوية، تماماً كالكتابة؛ بمعنى أن قراءة تجارب الآخرين تمكنك من معرفتهم بقرأتك لمقال حالهم الذي عبر عن لسان مقالهم المكون لشخصيتهم وهويتهم القومية، ولكن هذا لا يدفع بك أن تكون محموما أثناء القراءة وكأنه الهدف الوحيد الذي تسعى إلى تأويله والخروج منه بأحكام، تمكنك من معرفة لسان المقال جيداً، فهي عملية تأتى من فعل القراءة الأولى (القراءة) طبيعية وتلقائية، ولا اعني مصادفة، حيث تبدأ تظهر بعض المؤشرات الدلالية في لسان الحال عن لسان المقال كالسمات، والصفات المكونة، والدالة على شخصه، وماهيته القومية سواء كان جمعا أو افردا.
وقد يقول بعضنا بذلك نكون قد تخلينا عن المتعة؛ احد مكونات شرط القراءة وأساسها. وهذا ما ذهب إليه المفكر الايطالي امبريو ايكو في إحدى محاضراته، بعنوان لماذا نقرأ، فأجاب “نحن نقرأ لأننا نستمتع بما نقرأ، ولكن الأهم هو أننا نشعر أن حياتنا ليست مرضية وأننا نبحث بالقراءة عن أنفسنا”. ففعل قراءة القارئ على اختلاف مستواه الثقافي ونوعه، قد يصل إلى حد المتعة، رغم درجاتها المتمثلة في ثلاثة مستويات معرفية، الأولى: المعرفة الحسية، وهي قاصرة لا يمكن أن تعطينا المعرفة الصحيحة في جميع الحالات، وتوهم بالحقيقة في بعض الأحيان، بمعنى أن تكونخادعة في أحكامها أو كاذبة لذلك فنسميها معرفة ضعيفة.
يتبعها بالترتيب المعرفة العقلية، المتدرجة في مستويات المعرفة من الأدنى إلى الأعلى، كما حددها بلوم بمستويات المعرفة الدنيا للتفكير: كالتذكر، والفهم، والتطبيق؛ ومستويات المعرفة العليا للتفكير: كالتحليل، والتركيب، والتقويم. وقد لا يبلغها الإنسان جميعها وبإتقان، فللعقل قدرات وحدود لا يمكن تجاوزها، وهي طبيعية في تكوين الجنس البشري (النقص)، وتعبر عن قصوره وضعفه وعدم امتلاكه للمعرفة كلها، وهذا ما أثبتته التجارب الإنسانية على مر حقبها التاريخية، من مرحلة الإشارة والرسم مرورا بالمشافه وثم الكتابة، صحيح انه قد يسبر حقل معرفي ويتعمق فيه في وقت ما ولكن تظهر قضايا خلافيه مستجدة يعجز العقل عن تجاوزها، وقد تُشكل لفترات طويلة، وهناك قضايا خلافية لم تحسم بعد منذ القدم.
يدفعنا هذا إلى مدى الحاجة إلى مستوى معرفي أعلى، وهو المعرفة الحدسية (الإيمان)؛ وهي أعلى المراتب المعرفية، وسميت بالمعرفة اليقينية، ومشكلتها الوحيدة انك قد لا تستطيع أن تنقلها إلى الآخرين، فأنت قد تؤمن بفكرة ما ولكن لا تستطيع نقل هذا الإيمان بنفس الفكرة لهم. وباختصار لان قاعدة المعرفة الإيمانية (الحدسية) مبنية على قواعد دينية وخاصة السماوية منها، وأصحاب هذه المعرفة أو المؤمنون بها، سوف يصل القول بهم “قد لا املك الحقيقة ولكني مؤمن واعتقد أن الإنسان عليه الجد في البحث عن الحقيقة وان يؤمن بها”.
هذا يوصلنا إلى القراءة الناقدة التي تمثل الاستجابات الداخلية لمتطلب المتعة والحرية لما هو مكتوب، معملا كل العمليات العقلية السابقة التي تستلزم تدخل شخصية الإنسان لتفسير المعاني بالربط، والتحليل، والاستنتاج، وتُعين هذه المهارة على حل المشكلات، ليعيش القارئ غيبوبة بارت عند القراءة، حيث شبه تعامل القارئ مع النص؛ بعلاقة الرجل بالمرأة وما يرافقها من اللذة والمتعة؛ أي لا نبغي من القراءة أكثر من ذاتها.
صحيح أننا نحب أن نقرأ للقراءة ذاتها ولكن لا ننسى أنه ليس كل القراء يقرؤون لذلك، وهذا الأغلب. ولكن الأصل في القراءة وفعلها هو المتعة؛ فإن قرأت خبراً أو قصيدة أو أي مادة للمتعة الذاتية، وبأي موضوع، وصلت إلى حد المشاركة في إنتاج النص، لا أن تبقى مجرد متلقي سلبا في التعاملات النصية الناتجة عن القراءة الأولى وفعلها، فإذا عشت اللذة، والمتعة، ومارستها بحرية؛ فأنها توصلك إلى الفعل الحقيقي الشرطي للقراءة الأصيلة.
حلمي درادكه
2 تعليقات على لماذا نقرأ؟! – 1
أهلا سيد حلمي على موقع شباب الشرق الأوسط،
بالفعل كثيرًا ما أقرأ كتابات بلا متعة ولكن بهدف التعلّم والتحصيل والتنوع في مصادر الفهم للنفس والعالم، وأعتقد أنه إذا كُتب عشر رسائل، فمن النادر أن تجد بينهم ما “يمتعك” ما اختلاف مصدر هذه المتعة من شخص لآخر، ولكن حتمًا ستجد ما يفيدك أو يفيد الآخرين.
تحياتي
سلسله مهمه لتنالو موضع القراأه وخصوصا مع عزوف الناس عنها