اشترط الشاعر التونسي, ابو القاسم الشابي, بان القدر سيستجيب “اذا الشعب يوما اراد الحياة” وقد اشترطها بـ اذا. اذن فنحن نتحدث عن صيروره الاراده نحو فعل او عمل ارادي. فولد الربيع التونسي ثم المصري بعد ان وجد الشعبان ان لايمكن لحياة حرة كريمه ان تتنفس في ضل نظام بن على ولا مبارك المتمرسين في مسخ المواطن والوطن. ونحن نراقب نهاية الشتاء الليبي والسوري واليمني, وربما سنشاهد ربيع اخر في بلدان اخرى يحاول قادتها ابقاء الامور ضمن مكونات الممكن والتاريخي والسقف والترخيص الالهي, والمستحيل والحدود والامكانيات والتاريخ والايديولوجيا.
في لحظه معينه تحررت ارادة بو عزيزي فلم يعد قادرا على المضي بواقعه, فانتحرحارقا نفسه,وهي عاده غير معروفه وغير مقبولة في البلدان العربيه, بلدان الديانات القديمه في الشرق, فجاء حريقه ليولد الشراره لتحرير اردة الشعب التونسي فانطلق ليطالب باعلى سقف للمطالب “ارحل….زين العابدين”. ثم انطلقت ارادة الشعب المصري متحرره من العقل او التعقل من دون قيادات قديمه او دور للمثقف او مرجع سابق لها او معدا لها, فستجاب لهم القدر. وبقي الجديد يبحث عن هويته الجديده, وربما سيتطلب ذلك وقتا من الزمن لياخذ التغير الجديد ملامحه. بو عْزِيّزي, بعد ان توقف عقله عن ايجاد تبرير لبؤسه وفقره ولامتهان كرامته من قبل السلطه, تحررت ارادته, ولما كان بو عزيزي ان ذلك لا يرى اي افق للتحرر, لانه اعتقد انه وحيد, فقرر الانتحار احتجاجا على عقله الذي كان يبرر له الواقع لعديد من السنوات, وابقاه ذليلا منكس الراس, لان عقله استند على تبريريه تاريخيه او ايديولوجيه في الطاعه.

ان ما حدث ويحدث في تونس ومصر, في ضل غياب صراع دولي يساند او يرفض, وغياب شبه كامل لاي تنظيم كلاسيكي يقود, ولا مرجعيه ايديولوجيه, لا بل غياب دور للمثقف في كلتا الدولتين في قيادة الثوره, ثورة وضعت العالم المندهش المشلول من فعل الصدمه لعدم وجود مقياس لها لا تاريخي ولا ايديولجي, وضعته امام مستجد حديث غير معروف ليس فقط بسقف مطالبها العيا “ارحل” فقط بل بالفاعلين الاساسين فيها من شباب غير مؤدلج وغياب شبه كامل لاي دور للايديولوجيات والتنظيمات السياسيه, لا بل ان الشباب اضاف للثورة استمراريتها. ووقع البعض من الثقفين في فخ توصيف مطالبهم بانها بسيطه, لانها محصوره بالعداله الاجتماعيه وحرية التعبير والديموقراطيه والحريه, وبناء دولة خالية من الفساد دولة يتساوى فيها المواطنون جميعا. هذه المطالب ليست بالبسيطه في دول عاشت شعوبها ولمئات من السنين بدون ادنى متطلبات تلك المطالب, وان الشريحه هذه التى اسقطت السلطه تتطلع لبناء اوطان جديده غير مسبوقه لا تاريخيا ولا ايديولوجيا في الدول العربيه.
وتسارع الممسوسون بنظرية المؤامره لتفسير الربيع هذا بانه فعل يسعى لتدمير الوطن العربي وهو فعل من اعداء الامه, وهم حسب تفسيرات اصحاب المؤامره “وهم كثرُ” بانها مؤامره اسرائيليه وغربيه, وتناسو ان تلك الامه الموهومه في خيالهم لم يكن لها اي وجود في التاريخ, وان الاضرار بالاوطان لما بعد الاستقلال جاء من ابناء الوطن . وتناسو ان هذه الامه قد دمرها الاستبداد ورفض الاخر والعوده الى الماضي. هؤلاء تناسو ولم يبحثوا عن سبب فشل جميع النظم العربيه في خلق تنميه اقتصاديه اجتماعيه فاصبحت مصدره للعقول التي تبحث عن الحريه لتنتج. انها لا تفهم سببا لرفض الجماهير للاب القائد لرفضها للحزب الطليعي لرفضها للمخلص لرفضها للرقيب على فكرها, فجل شعارات
الشعب تنحصر في “الشعب يريد”, اذن فقد اطلقت ارادتها. وتناسى الممسوسون بنظريه المؤامره ان القهر بجميع اشكاله لا يمت بصله بعقل الانسان, وهم هنا, اي الممسوسون, يدافعون ربما من غير وعي منهم عن النظم الاستبداديه, ويدافعون ربما بوعي او من غير وعي عن حكم الظالم بارادة الله. وان كل ما تم بعد الاستقرل هو تحرير الارض دون الانسان.
ما حدث اجفل جميع القوى التى لديها مرض نفسي يسمى “الخوف من الحريه”. وهو حاله نفسيه قد تكون فرديه او جماعيه, وقد تتلبس فردا او جماعة او شعب, وكل من يبحث عن مرجعيات لاحتضان او سجن الواقع الحالي وتتلبس كل من لا يطلق عقله حرا في البحث والتنقيب عن الاسباب والنتائج. بدات هذه الحاله ” الخوف من الحريه” بالظهور بعد انتصار ارادة الشعبين التونسي والمصري, فدخلت مجموعات قديمه بشعارات حديثه في محاوله منها للجم تلك الحريه, وتقنينها عبر لجمها بنفس اللجام السابق, التاريخ والايديولوجيا, وعبر مفهوم استخدام العقل استخدما انتهازيا نفعيا, وكّان العقل مستقل عن التاريخ والمكون الثقافي.
لنعد الى مراجعه سريعه لتاريخا في الصراع وفي الخسائر, ولسنا هنا في مناقشه تاريخيه بل فقط لا ستخدام الحدث للدلاله. عندما نادى المعتزله بتحرير العقل خسروا المعركه واخرجوا, لان الدمشقي خسر قبلهم معركة تحرير الاراده. فاصبحت عقولنا مرتهنه لدى غيرنا من اولي الامر لاننا قبلها خسرنا ارادتنا. وهنا دخلنا مرحلة يسميها جورج طرابيشي بـ “العقل المستقيل”, اي ان عقولنا مستقيله بارادتنا.
كيف بارادتنا نسجن عقلنا ؟. ان عقلنا يطلب منا ان نكون عقلانيين, بمعنى تقليل المخاطر والمغامره, ان نمشي خلف المؤكد المضمون وباقل الخسائر. والحريه هي اراده تفتح كل الاحتمالات, فتصطدم الاراده مع العقل لان العقل يطلب ان يعرف الاتجاهات. ففي اراده العمل ضد الاستبداد يكبلنا العقل بانها “مغامرة” غير مضمونة النتائج. وتبرز هنا ضمن عقلنا ما تربينا عليه من ثقافات متوارثه من الديانات من قضاء وقدر والخنوع والاتكاليه, ثقافات تلبست العقل وتاصلت فيه بجذورها العميقة, فاسست لنا عقلا مطيعا ذليلا تبريريا اتكاليا تسطيحيا افقيا نفعيا, فخلقنا جدارا امام ارادتنا امام ان تنطلق.
ان ابرز اسباب انتصار الربيع التونسي والمصري, هو انتصار الارادة على العقل لانها, اي الاراده لم تستند على اية مرجعيه, او الى التاريخ او الايديولوجيه. وكان الربيعان سلميان لان الاراده تنادي بالحريه ورفعت شعارا لاول مره في تاريخ المنطقه ” حريه وحريه بس” كما في سوريا. وفي خضم ذلك برز لنا موقف المثقف العربي في ازمته المتخبطة من الربيع العربي. فهو, اي المثقف العربي, بقي مترددا لا يفهم كيف ان سقف المطالب كان باعلى مستوى له وتحقق بدون عنف, تحقق من دون مراحل, تحقق من دون مرجعيه. وتجاوزت ارادة الناس عقل المثقف العربي المشّبع بالمرجعيات المتشابكه, التاريخيه والدينيه, والتى يعلن المثقف تخلفها الا انه يمارسها. هذا التشابك جعل المثقف يقف متخبطا بين ماضي قريب للزوال وبين مستقبل غير واضح, بين ايديولوجيات الطليعه وممتلكي مصائر الناس, وبين جماهير تخلق الساحات قياداتها, وقيادات تمتلك فهما للانترنت ولا تمتلك ايه خبره في العمل السياسي, وقاعده جماهيريه واسعه غير متعلمه, وكل ما تطلبه الجماعير هو تحرير ارادتها عبر “ارحل و حريه وبس”.
وان اتفقنا ان الحرية من حق الانسان لانها من طبيعته وليس ناتج طبيعي بل مكون او نتاج فكره, فاننا لا نستطيع الا ان ندين العقل المشبع بالتاريخ والثقافات والديانات الذي يسعى الى ازحه الحريه او تكبيلها.

وفي محاوله للامساك بالحاضر وجره الى الماضي, رفضت حركة النهضه التونسيه, وهي امتداد للاخوان المسلمين, امتداد للسلفيه التكفيريه, ان يمنح لقب شهيد لـ بو عزيزي, بحجة ان المؤمن لا يقتل نفسه. حركة النهضه هذه منحت لقب شهيد لصدام حسين ولـ بن لادن ولكل من فجر نفسه وقتل غيره بعد تكفيره. وهنا برزت مرتا اخرى محاولات القياس للحاضر عبر الماضي, محاولات قياس الحاضر عبر الايديولوجيه المشبعه بالمشروط والمحرم والحلال والحرام. وحضرت اليوم في الشارع التونسي القوى الراغبة بالتغير والتحرير والانطلاق الى الغد, والقوي التي تحاول جر التغير الى الوراء loopingعبر الاستنجاد بالتاريخ والماضي كمقدسات لا يحق تحرير ارادة مناقشته , وهي بالتالي تسجن العقل ضمن مفهوم واحد للحاضر بمقياس التاريخ والايديولوجيه.
اما الشباب المصري فقد وجد ان ارادته قد تحررت بعد اكتشافه ودخوله العالم الافتراضي ” الشبكه العنكبوتيه”.. التجمع الممنوع علنا من قبل قانون الطوارئ الا انه تحقق عبر الانترنت. وحريه الراي المراقبه بصرامه تحطمت ضمن شبكات التواصل الاجتماعي, وعندما اغلقت السلطات مواقع التواصل الاجتماعي اسقط الشباب المصري ذلك الحصار وبقي التواصل رغم بقاء قانون الطوارئ. فتحررت ارادة الشباب المصري ووجد ان سقفه لا يمكن ان يكون اقل من “ارحل و حريه حريه”. ومن مدلولات هذا الشعار “ارحل و حريه حريه” ان الثائرين التونسين والمصريين والسوريين ربطوا بقوه بين الحريه وارحل, بمعنى ادراكي وعيي ان الحريه غير ممكنه الا برحيل الطاغيه, وانها اي الحريه, غير ممكنه من غير رحيل الطاغيه, وليس عبر الدعاء للالهه بتغير الطاغية او بتحسين اخلاقه, كحد ادنى.
ان معطيات او مخرجات ثورة المعلومات والاتصالات ليست في سرعه الانجاز بل في كسر حدود سيطرة الدوله نفسها, كسر الة العنف عنف الدوله وقهرها وحجبها لحريه الاراده في التعبير والاختيار, فيمكن خلق تنظيمات او كما تسمى في مواقع التواصل الاجتماعي مجموعات, لا توحدها ايديولوجيه معينه ولا معرفه سابقه لافرادها بعضهم لبعض, بل والاهم من كل هذا, ان الانترنت مكن الشباب من خلق تنظيمات عصيه على الاجهزه الامنيه لا يمكن اختراقها من قبلها فهي ليست مقرات جغرافيه او قاعات اجتماعات, يراقب الداخل والخارج منها واليها واعتقالهم, ويمكن لمستخدمها ان لا يستخدم اسمه الصريح, تماما مثلما يحدث في الاحزاب السريه. فاكتشف الشباب ان لا يمكن لاحد ان يقف امام مواقع التواصل الاجتماعي, ولا يمكن لطرف واحد السيطرة عليها .
ولكن مما يؤسف له ان بعض المثقفين العرب وقف بالضد من “الحق”, الذي هو الوظيفه الاساسيه للفكر. لا بل ان البعض منهم تلبس رداء رجال الدوله في الحفاض على القانون, واصبح المدافع الاساسي عن ” المصلحه الوطنيه” النسبيه مضحيا بحق تحرير الاراده المطلق. وتناسى بعضهم الاجابه على تساءل مهم ان الدوله تخلق لمصلحة المواطن فكيف ندافع عن دوله تسلبه حقه, في دولة لا يمتلك بها المواطن حق حرية الاراده والتعبير والديموقراطيه. وما معنى ان تكول الدوله قويه ومواطنيها يرتعشون خوفا من ابسط رجل امن, ويقف ساعات امام مكتب موظف ذليلا راجيا تمشية معاملته في دوله تصرخ صباح مساء “ارفع راسك انت……” بينما جلاوزتها يسحقوق رؤوس المواطنين تمتعا وتلّذّأًّ.
وعودة هنا لدور بعض المثقفين العرب من ثورات الشباب. فمن البديهيات ان السياسه في البلدان العربية بلا جماهير وتعمل بمعزل عنهم, الا ان هناك من المثقفين العرب من يبرر تلك السياسه ويغطي عليها بانها حداثويه, لان الشارع متخلف’ وبما ان السياسه هي عمل فكري واعي اذن لا يمكن لرجل الشارع ممارسته ولهذا فالعمل السياسي نخبوي. وهنا يستخدم المثقف العربي ثقافته من الجبريه الدينيه ودور الطليعه السياسيه. وهنا يشارك المثقف العربي السلفيه في تعبيد الطريق لحكم اوتوقراطي او ثيوقراطي او عسكري لان القياده السياسيه هي لـ اولي الامر, وهذا الموقف المتعالي لبعض الثقفين العرب سيعقد دوره ومكانته في بناء ما بعد التغيير . وقد افشل الربيع العربي وسيفشل الشتاء الليبي واليمني والسوري طروحات العقل المشبعة بالتاريخ والمرجعيات.
ان مراوحة الشباب العراقي في ساحة التحرير لا يمكن اعزاءه لبطش السلطه فقط, لان الشباب المصري افشل البطش في معركة الجمل كما سميت, ولكن لان الشباب العراقي لا يزال لم يحرر ارادته.
بغداد 31/8/ 2011