كنت أسأل نفسي, هو أنا ليه لم أتعاطف مع الثورة؟ ليه بعدت أميال و أميال عن اللي مسميين نفسهم حقوقيين و ليبراليين لدرجة أني فضلت عليهم حكم العسكر؟ ليه لم أتعاطف مع المطالبين بحقوق العمال و الموظفين و الحد الأدني للأجور مع أنني أتألم, بالفعل و بشكل مرضي, لمأسي الأخرين و أحزانهم و ألامهم؟

 

مارست جلد النفس و حكمت علي نفسي بالنفاق أو علي الأقل بسوء فهم نفسي. حكمت علي أفكاري بأنها فقاعة إتخرمت تحت أول إختبار حقيقي. و إلي حد ما, لا أستبعد كل تلك الأحكام القاسية حتي تبين لي يوم بعد يوم أن الموضوع بكل بساطة (زائد الكلام ده كله) أن 28 يناير مش ثورتي حتي لو كانت رفعت نفس الشعارات اللي أؤمن بها, بل و لعله لا يمكن أن أرتبط عاطفيا بأي ثورة مهما كانت

 

الميزان

 

لاحظت في نفسي أيام الثورة و اللجان الشعبية تحول سريع من الإنسانوية إلي الوحشية جراء كل من يهدد سلامتي و أمني و سلامة و أمن من أحب. جزء بجزء, سريعا, خسرت إنسانيتي و أنا أطعن و أضرب و أدعو لقتل من إستحلوا مالي و حياتي و عرضي و حياة من أحب. فقدت الجزء البسيط المتسامح إلي أقصي درجة مع الجميع و إكتسبت, عند الإختبار الحقيقي, تسامح من نوع أخر. إكتسبت تسامح مع الإنتقام و العنف و الغضب و الكره. و لعله مبرر, بل هو كذلك. إكتسبت التسامح ده بدون حزن أو ذنب أو ألم زي ما كان بيحصل كلما فقدت مسلماتي. و لكنني لم أقف عند الحد ده, فعلي الرغم من تقبلي لنفسي الجديدة وجدت ضرورة لفهم التحول ده جاء من فين. نعم, لعل أغلب الأشخاص في نفس الظروف الإنفلات أمني  اللي عايشناها أيام الثورة (و مازلنا حتي الان) تصرفوا كما تصرفت و لكني لا أستطيع أن أصرف نظر عن حقيقة أنني كنت متخوف قبل الثورة و كتبت بالتحديد عن الفوضي المحتملة

 

لم أكن بأي حال من الأحوال راضي بنظام مبارك لأسباب مختلفة و كنت أقول يكفي منظر الزبالة في الشارع لكي أحكم علي الحكومة بالفشل. كنت غاضب من فشل الحكومات المتعاقبة في التعامل مع مشاكلنا اللي بجد من عشوائيات و إنفجار سكاني و تطرف ديني و فقر و ظلم و عبرت عن ده في كل الوسائل البسيطة و الصغيرة اللي أتيحت لإنسان بسيط و قليل الحيلة مثلي

 

كنت

أدرك أن في بعض الأحيان التغيير الجذري لا يأتي إلا بثورة, و لكنني الان و بكل وضوح شايف أنه الإصلاح دائما هو الخيار الأفضل  .لعله يكون بطيء و مخذل و محبط, و لكن حتي إذا ما ضمنت أي ثورة مستقبل بعيد أفضل للأجيال القادمة, فأنا لا أريد أن أجبر أن أقبل دور المخلص و الأضحية. نعم, بأنانية شديدة, أقول: لا أريد الخير لمن بعدي علي حسابي و حساب من أحب لأن بكل بساطة دي حياتي و الناس دي هم اللي أنا فعلا مهتم بهم و بحالهم

 

إله الفوضي

يقال أنه لكل شيء ثمن و أن ثمن الثورة, حتي إذا كان الإنفلات الأمني و العجز الإقتصادي و التطرف الديني و تبعيات كل الحاجات دي إجتماعيا فيما يؤثر علي حياتنا مباشرة, هو في النهاية ثمن يجب أن نتحمله من أجل الصالح العام. و لكنني حتي لم أري الصالح ده بعد

 

 

لما أري من نصبوا نفسهم أولياء الثورة بيحرضوا عيني عينك علي كل شيء بداية من التعرض للأفراد حتي المؤسسات و وصولا بحرب أهلية يسقط فيها الألاف, و أسرح مع نفسي في ما قد يعنيه ده لي و لمن أحب, يبقي الثورة دي مش ثورتي

 

 

مش هأتكلم عن مزايا حبس من تم تسميتهم بـ”رموز الفساد”, و مش هأتكلم عن هدم الكثير من التقدم اللي أحرزته مصر إقتصاديا علي الأقل و لو كان قليل أو غير مؤثر في نظر البعض. دي مش ثورتي لأسباب أبسط و أكثر عموما و إرتباطا  في نفس الوقت بالشعارات اللي رفعتها الثورة

 

يفطجية

 

يناير مش ثورتي لأنني حقا أؤمن, أو هكذا أظن, بحق الإنسان في حرية العقيدة و التعبير و السلام و التنقل. لما ألاقي في شخص (مؤخرا) يحكم عليه بالسجن ثلاثة سنين بتهمة إزدراء الأديان بسبب ما يكتب علي النت (بغض النظر عن محتوي ما كتب, في حدود ما نقل في الأخبار علي الأقل), و في نفس الوقت لا أسمع لا حس و لا خبر ممن رفعوا يافطة “الحرية”, علي الرغم من عويلهم المستمر بإسم تلك القيمة لأنه لم يتطرق إلي السياسة و بالتالي لم يكتسب بادج المناضل, يبقي الثورة دي مش ثورتي

 

و الألعن من ده, و هم من ينادوا بالحرية, تجدهم لا يجددوا غضاضة في أن يتم تسليم الحكم لمن نعرف عنهم بكل وضوح و بدون شك كرهم و مقتهم ليس فقط لقيمة الحرية, كما أفهمها, و لكن لأي مظاهر لها سواء في إختيارات الناس الشخصية أو تشريعات أو سياسات عامة

 

الدجموقراطية

 

الثورة مش ثورتي لأنني براجماتي إنتقائيا. فأنا لا أمانع التنازل عن بعض الأمور في حالات معينة و لكن لا أستطيع تقبل التنازل عن حريات الأفراد و حقهم في التعايش بضمائرهم بدون نبذ أو تخويف أو قمع سواء بإسم الإرادة الشعبية أو بإسم الوطن أو بإسم الله و الدين و الكتب المقدسة هيتقال أنني أردد فزاعة الإسلاميين أو أنني أجزم بما لا أعرفه بالضرورة بأن الديمقراطية = حكم إسلامي. مش هأفكر الإخوة الليبراليين بفزعهم في ما سمي بجمعة قندهار أو فشلهم المأسوي في الإستفتاء الطائفي بتاع مارس, و لكن يكفيني الإنتباه للمؤشرات الواضحة أن هناك واقع علي الأفق و محتمل جدا أكثر قمعا و تسلطا و إستعبادا من كل كرهوه من نظام مبارك. مجرد الإحتمال و المخاطرة يكفيني أن أعلن أن الثورة مش ثورتي

 

هيقال أن مش بالضرورة تكون الأمور أسوأ في الحالة دي, طب بأمارة إيه؟ بأمارة رسائل البنا و معالم طريق سيد قطب و مقالات اللواء و فلتات قادتهم “المعتدلين” أو طلعات سلفيتهم؟

 

الواقع

 

الثورة مش ثورتي لأنني حتي و إن كنت أحمل نظام مبارك فشله في التعامل مع مشاكلنا الحقيقة السالف ذكرها, فأنا لا أستطيع أن أتجاهل أنها ليست الطرف الوحيد أو الأقوي في كل ما نشتكي منه. علقنا علي شماعة مبارك و نظامه كل نواقصنا و عيوبنا كأننا كنا ملائكة يحكمها الشيطان. و كأن ثقافتا لا يعيبها شيء أو أن إختيارتنا دائما صحيحة  و إعتقادتنا دائما متسامحة و متنورة

 

الثورة مش ثورتي لأنه أثناء ما بنتصارع علي الإسلام هو الحل و لا لأ, و المادة الثانية, و مدنية الدولة و المغتصب اللي عنده 18 سنة إلا ربع مجرم و لا لأ, تزداد البطالة إلي 20% و يتضاعف بشكل مرعب عدد السكان و لا تزيد الموارد و لا تصنع الثروة حتي توزع من أساسه – ناهيك توزع بعدالة و لا لأ – و يؤسس فصيل إرهابي حزب سياسي معترف به في مهزلة إنسانية و أخلاقية و سياسية لا يجب أن تغفر للثورة و المجلس العسكري و كل من حتي لم ينزعج جراء ده

 

خلاصة

 

متفتكرش أنه في نهاية كل ده أنني أدافع عن مبارك أو أنني بأتبلي علي الثورة, فأنا لم يعد يعنيني الكلام ده علي الإطلاق. و لا أريد أن تخرج بإنطباع أنني ماشي جنب الحيط, فأنا إله الفوضي يناجيني من حين لأخر و إطلالته تثري روحي, و لكنني أخافه مع أنني لم أنكوي بناره بعد. و أريد أن أضيف أن دي مش مراجعة, فأنا لم أؤمن بالثورة حتي أكفر بها. كل ما في الموضوع أنني أمارس ثورتي الحقيقية, ثورتي علي نفسي الضئيلة الحقيرة الجبانة الجاهلة, و ليتني أفلح. معركتي مع نفسي, و أول المعركة دي أن أهزم الخوف من أكون, كما أنا و ليس كما أريد … و ليس كما يريد الأخرون أن أكون, بغض النظر عن ما يقدسون من أسماء و كتب و ألهة و أوطان …. و ثورات